هل يهدد الخلاف بين أمريكا والصين باندلاع "حرب باردة جديدة"؟
أفادت ورقة بحثية، منشورة في
مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة، بأن "العلاقات الأمريكية-الصينية مرّت منذ عقود بحالات من الشد والجذب، إذ شهدت فترات من التقارب والتباعد؛ إلا أنه مع بداية انتشار وباء (كوفيد-19) سيطرت عليها حالة من التوتر والتصعيد، إذ زادت حدة التنافس بين القوتين العظميين من خلال استمرار حرب التضليل المعلوماتي المتبادلة بين كلٍّ منهما حول أصل فيروس كورونا، لتحقيق العديد من المكاسب السياسية على حساب الآخر، الأمر الذي أدى إلى مزيد من التصعيد مع التحركات الجيوستراتيجية في منطقة المحيط الهادي-الهندي (Indo-pacific Ocean)".
وأوردت المقالة التحليلية، المعنونة بـ"كيف يهدد الخلاف الأمريكي-الصيني بحرب بادرة جديدة؟"، أنه "في خضم اشتداد تلك الحرب، قام صحافيان في صحيفة "وول ستريت جورنال"، أحدهما في واشنطن "بوب دافيس"، والآخر في بكين "لينجلينج وي"، بمحاولة تتبع مراحل وأحداث الحرب التجارية بين كل من الولايات المتحدة الأمريكية والصين، وذلك بحكم قدرتهما على الوصول إلى صناع القرار في البيت الأبيض ومجمع القيادة في زونجنانهاي".
وتابعت المقالة: "يعتمد الصحافيان بشكل أساسي على مئات المقابلات التي تم إجراؤها في كلٍّ من واشنطن وبكين على مدار السنوات السبع الماضية مع مسؤولين حكوميين حاليين وسابقين ورجال أعمال في الدولتين. وتم تجميع تلك التقارير في كتاب صدر مؤخرًا بعنوان "المواجهة بين القوى العظمى: كيف تهدد المعركة المتبادلة بين ترامب وشي بحرب باردة جديدة؟"، حيث تم الكشف عن مراحل العلاقات الأمريكية-الصينية، وكيف ضرب التوتر صميم تلك العلاقات، والتداعيات المرتبطة بحالة التصعيد المتبادل بين الجانبين".
تبعا لذلك، يَخلُص الكتاب إلى نتيجة مفادها أن الحرب التجارية التي اشتد أُوارها بين الصين والولايات المتحدة لم تبدأ مع الرئيس "ترامب" ولن تنتهي به، إذ إن المراجعة الدقيقة لتاريخ العلاقات بين البلدين تكشف عن سلسلة طويلة من المشاحنات على المستويين السياسي والاقتصادي، وهي تلك التي شهدت تصعيدًا على مدار السنوات الثلاث الماضية؛ ما أثر سلبًا على اقتصاديات البلدين والعالم كله، وخلق حالة من عدم اليقين والاضطراب في الأسواق العالمية.
مراحل العلاقات الأمريكية الصينية
تلفت الورقة إلى أن الكاتبين يحاولان تتبع مسار تطور العلاقات الأمريكية-الصينية، حيث كشفا أنه قبل وقت ليس ببعيد كانت العلاقات بين الدولتين واعدة للغاية، إلى الدرجة التي جعلت بعض الأكاديميين، ومن أبرزهم "نيال فيرجسون" (Niall Ferguson) يصوغون تعبير "Chimerica" عام 2007، وذلك للإشارة إلى درجة الترابط والاقتران بين مصالح الدولتين، حتى مع وجود بعض المشاحنات.
وبالعودة إلى الوراء، فإنه بعد تأسيس جمهورية الصين الشعبية عام 1949، كان النظام الشيوعي مسيطرًا إلى أقصى درجة، وكانت وتيرة التعاون التجاري الخارجي محدودة للغاية؛ ما تسبب في وجود بعض النقص في السلع، لكن مع تولي الرئيس "دينج" السلطة بعد وفاة "ماو" أتاح قدرًا من الرأسمالية لزيادة الإمدادات الغذائية، فقام بتغيير نظام الحصص الصارم من خلال سياسات أعطت للمزارعين السيطرة الرسمية على أراضيهم، وخفضت حصص إنتاجهم، وسمحت لهم ببيع ما ينتجونه فوق الحصص في الأسواق الحرة بأسعار غير محددة، وفق المصدر عينه.
ومن ثمة، ساهم النظام الجديد في زيادة الإنتاج الزراعي الصيني بنسبة (25%) في السنوات التي أعقبت التغيير، وهو ما أعطى القادة الصينيين الثقة في أن إصلاحات السوق يمكن أن تنجح في مجالات أخرى أيضًا. كما تم السماح كذلك للشركات الخاصة بالعمل لأول مرة في الصين. ومنذ ذلك الوقت بدأت الصين في الانفتاح بقدر معقول ووفقًا لقواعد محددة على العالم الخارجي، والسماح بدخول الاستثمارات الأجنبية، حيث طُرحت المناطق الاقتصادية الخاصة ذات المزايا على أراضيها.
وأعقب ذلك تولي الرئيس الصيني "شي جين بينج"، الذي وضع الخطوط العريضة لما أسماه "الحلم الصيني"، وهو شعار نقل رغبته في جعل الصين قوة عظمى عالمية؛ فمنذ التسعينيات حتى حوالي عام 2012، عندما تولى "شي جين بينج" السلطة، كان من المتوقع أن يتضاءل دور الشركات الحكومية بشكل مطرد، وهي تلك التي تدعمها الحكومة بقروض منخفضة، إذ كان ينظر إلى "شي" على نطاق واسع على أنه إصلاحي. وقد تم الاعتماد على الشركات الخاصة لتحريك البلاد إلى الأمام من الناحية التكنولوجية، وتقليل فجوة الدخل الآخذة في الاتساع، وتوسيع قوة البلاد.. وعُدت تلك الشركات بمثابة العمود الفقري لـ"حلم الصين". ونتيجة لتلك الجهود نمت استثمارات الدولة المدفوعة بالقطاع الخاص بشكل أسرع في ظل حكم "شي"، فأفسح ذلك النمو المجال أمام عودة دور الدولة في تخصيص الموارد وتقلص دور السوق والشركات الخاصة.
وبناءً عليه، تؤكد الورقة أن حالة من المنافسة غير العادلة تشكلت بين الشركات الصينية المملوكة للقطاع الخاص والشركات المملوكة للدولة والشركات الأمريكية. وفي المقابل، عمل القادة الصينيون على الاستفادة من المعركة التجارية مع الدول الغربية في بعض الأحيان، إذ استخدمت الأجيال السابقة من القادة الصينيين الضغط الأمريكي للدفع بمجموعة من الإصلاحات الاقتصادية المطلوبة في الداخل، وتم تجاهل الشكاوى من المنافسة غير العادلة.
وحقيقة الأمر، فإنه رغم توجيه الاتهامات لـ"ترامب" بالتسبب في اشتعال تلك الحرب؛ إلا أنه لا يعدو أن يكون سببا من الأسباب التي كانت ستشتعل الحرب به أو بدونه، بل إن العلاقات كانت تتدهور قبل توليه منصبه وستستمر من بعده. أما عن دور "ترامب" في إشعال تلك الحرب فتوضح الورقة أنه اتخذ مجموعة من الإجراءات التي لم يجرؤ عليها أي رئيس أمريكي سابق بهذا القدر من التطرف مع شريك تجاري رئيسي منذ الثلاثينيات؛ فقد جعل من تعبئة الرأي العام الأمريكي ضد الصين هدفًا وشعارًا لحملته الانتخابية، كما مارس العديد من الضغوط الاستفزازية على بكين بوضع نصف وارداتها للولايات المتحدة تحت التعريفات الجمركية.
ملامح التضرر الأمريكي
ترى الورقة البحثية أن التوسع الصيني وإغراق الصين للأسواق الأمريكية أسهم في خلق جبهات مضادة من الطبقة العاملة الأمريكية ضد بكين، إذ قضت الواردات الصينية المدعومة بعملة مقيمة بأقل من قيمتها على مدن صناعية بأكملها في الجنوب الشرقي والوسط الغربي. وارتفع معدل البطالة من أقل من (3%) عام 2000 إلى أكثر من (15%) بحلول عام 2010، ما أدى إلى خلق طبقة أمريكية جديدة من شأنها أن تربط آمالها واستياءها من الإغراق الصيني بوصول "دونالد ترامب" للرئاسة.
واتخذت الشركات الأمريكية التي امتثلت لفترة طويلة للمطالب والضغوط من قبل السلطات الصينية موقفًا مماثلًا من الضغط على البيت الأبيض، لاتخاذ إجراءات أشد صرامة في مواجهة الصين، إذ اتهمت تلك الشركات المسؤولين الصينيين بمساعدة الشركات المحلية على سرقة تقنيتها. كما كان يخشى الأمريكيون أيضًا من خطط الصين لإنفاق مئات المليارات من الدولارات لتجاوز الولايات المتحدة في الذكاء الاصطناعي، وأشباه الموصلات المتقدمة، والطيران، وغيرها من تقنيات المستقبل.
وبدلًا من إعادة النظر في السياسات التي تسببت في تفاقم ردود الفعل الأمريكية على هذا النحو، لجأت بكين إلى أساليبها القديمة من خلال فرض الغرامات وتهديد الشركات الأمريكية متعددة الجنسيات، التي تحتاج إلى نمو السوق الصيني. وتسببت الحسابات الخاطئة للقادة الصينيين في تفاقم الأمور، إذ كانوا يتوقعون من تلك الشركات الضغط على واشنطن للتراجع، للحفاظ على مصالحها في بكين، أو محاولة اجتذاب اهتمام المسؤولين المتعاطفين في واشنطن، وخاصة وزير الخزانة، معتقدين أن ذلك من شأنه أن يساعد على رفع مكانتهم، وهو الأمر الذي لم يحدث.
اشتعال الحرب التجارية
وفي هذا الصدد، تشير الورقة إلى أنه في ظلّ استمرار تلك الصراعات، فإنه مع بزوغ عام 2018، بدأ أكبر اقتصادين في العالم في خوض معركة تجارية من شأنها التأثير على الاقتصاد العالمي، والإخلال بخطط الشركات في الولايات المتحدة وأوروبا وآسيا، بل والتأثير كذلك على حياة ووظائف أكثر من مليار شخص. ويمثل الصراع بين الولايات المتحدة والصين أهم منافسة جيوسياسية في أوائل القرن الحادي والعشرين.
وعلى مدى العامين التاليين، استمر الجانبان في توجيه الضربات لبعضهما، الأمر الذي انتهى بهدنة قصيرة تمثلت في توقيع المرحلة الأولى من الاتفاق التجاري؛ ورغم البدء في تنفيذها، إلا أنه من غير المتوقع أن تستمر الصين في توسيع وارداتها من الولايات المتحدة الأمريكية أو الدخول في المرحلة الثانية من الاتفاق، إذ جاءت أزمة فيروس كورونا لتقلب موازين الأمور وتزيد من حدة المعركة المتواصلة بين البلدين، التي كان قد بدا أن وتيرتها خفت، وبدلًا من ذلك استعد الجانبان لصراع طويل، لن يعتمد فيه أحدهما على الآخر كما كان من قبل، إذ عملت الولايات المتحدة على إيجاد بدائل لمصانعها في المكسيك وفيتنام والهند.
احتمالات حرب باردة جديدة
تخلص المقالة التحليلية إلى أن "كل ما سبق يهيئ العالم للانتقال من حالة الحرب التكنولوجية والحرب التجارية بين كل من الولايات المتحدة والصين إلى تشكٌّل حرب باردة جديدة مكتملة الأركان، كما أنه من المتوقع أن تستمر تلك الحرب لما بعد انتخابات 2020 الرئاسية، بل وحتى في حالة خسارة "ترامب" تلك الانتخابات، مستغلة وضع الصين في ذهن المواطن الأمريكي باعتبارها العدو الأول الذي يمثل تهديدًا اقتصاديًّا وتجاريًّا للولايات المتحدة، بالإضافة إلى انتهاكات حقوق الإنسان والأمن العالمي، إذ صاغ "ترامب" بداية لمرحلة جديدة من العداء بين الدولتين ستستمر لسنوات قادمة، وربما بشكل دائم، ومن غير المحتمل أن تتغير تلك الرواية".
وفي الختام، أكدت المقالة أن "كلا الجانبين يستفيدان سياسيًّا من الخلاف، فامتلاك عدو أمريكي يساعد "شي جين بينغ" على توطيد السلطة، و"تبرير ميوله الشبيهة بماو".. كما أن امتلاك عدو صيني يمنح "ترامب" زخمًا سياسيًّا، كما أنه ساعده في تنفيذ خططه التي عبر عنها في شعار "أمريكا أولًا"، إذ ساعد تضخيم العدو الخارجي في توحيد الأمريكيين المتصدعين، كما فعلت الحرب الباردة ضد الاتحاد السوفيتي، ومن ثم سيحشد "ترامب" الكونغرس لإنفاق ما هو مطلوب لاحتواء الصين، لأن البديل يعني الإذعان للتفوق الصيني".