تيمورلنك… اللعنة التي حلّت على الخلافة العثمانية – الجزء الثاني
تكلمنا في المقال السابق عن تيمورلنك، وعن بدايات الصدام مع الدولة العثمانية، وأسباب التصارع بين القوتين الكبيرتين آنذاك. وتوقفنا عند تساؤل هام عن موقف القوى النصرانية من هذا الصراع.
موقف النصارى
يقول رب العزة عز وجل:
﴿وَلَن تَرْضَىٰ عَنكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَىٰ حَتَّىٰ تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ ۗ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَىٰ ۗ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ۙ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ﴾
سبحان الله! فهذا هو الواقع الذي عايشناه على مر التاريخ ونحياه الآن، ولكن للأسف الشديد لا يفقه الحكام هذا، أو على الأقل يتناسونه ويقيمون معهم المفاوضات بانتكاسات وخضوع وخنوع، ولو على حساب إخوانهم من المسلمين. وهذا ما فعله النصارى في هذا الموقف، ففور قرع طبول الحرب، شجعها العالم النصراني؛ إذ أن هذا ما كان يتمناه البابا والحكام الأوروبيون، والإمبراطور البيزنطي، بأن تشتعل الحرب بين العثمانيين والمغول من جديد.
ومع اشتعال الصراع، شعرت أوروبا بتنفس الصعداء [1]، وخاصة القسطنطينية. بل أجرى الإمبراطور البيزنطي مفاوضات مع تيمورلنك على الفور، وحذا حذوه شارل الخامس ملك فرنسا، حتى إن إمارة «طرابزون» الصغيرة، أعلنت استعدادها للسماح لتيمورلنك باستخدام مينائها الوحيد، وكذلك وعده أهالي «جنوه» الذين يديرون منطقة «بيزا» الواقعة عند القرن الذهبي لإرسال سفنهم ومنع أي إمدادات عسكرية للعثمانيين إذا ما حاولت العبور إلى آسيا الصغرى في حال ما بدأت الحرب [2]. وكان كل هذا سعيًا للقضاء التام على الدولة العثمانية، بل وإجلائها بالكامل من أوروبا. فأي حقد هذا في قلوب هؤلاء!
معركة أنقرة
كان بايزيد يخطط أن تكون المعركة بينه وبين تيمور خارج حدود الدولة، لا سيما وقد اقترب موسم حصاد الفاكهة، ولا يريد تخريب طعام وتجارة المدينة. أما تيمورلنك فكان يخطط للتوغل السريع بقواته ولمسافات بعيدة في الأراضي العثمانية، وذلك بهدف إرباك بايزيد وقواته؛ حتى تتشتت ولا تعرف أين تقاتل أهنا أم هناك [3].
وعلى هذا، زحف تيمورلنك باتجاه الأناضول، وقد حرص على إخفاء قواته خلف الجبال، وأتلف المزروعات أثناء طريقه، ودمر البلاد التي مر بها خلال عملية الزحف، وكانت حجته في هذا إيجاد وجمع الأعلاف للخيول [4].
تقدم تيمورلنك إلى «سيواس» -والتي كما ذكرنا كان يعتبرها نقطة جوهرية بالنسبة له-؛ فاحتلها وأباد حاميتها، والتي كان يقودها الأمير أرطغرل بن بايزيد [5]، فكما لو أنه أراد أن يفتك بسيواس على رفضها الدخول في طاعته من قبل، وأن ينتقم من بايزيد في ابنه أرطغرل رحمهما الله.
وقفة
يجب ألا نعجب أبدًا من هذه الحجج التافهة التي تتردد على المسامع من تدمير المدن والزروع لأجل إيجاد طعام للخيول، ألم يكن يستطيع أن يجمع الأعلاف لهم دون حرق المحاصيل ودون قتل البشر ودون تخريب المدن؟! ولكن لا نعجب من هذه الأمور، والتي على إثرها يُذبح المسلمون ويُقتَّلون ويُشرَّدون ويصبحون لاجئين في دول الغرب النصراني، فأوَّاهُ على سوريا اليوم!
المعركة
مدينة أنقرة التاريخية
التقى الجيشان قرب أنقرة، حيث يتضح أن المعركة ستكون هناك، ولذلك أرسل تيمور طليعة من جيشه لردم الآبار من اتجاه بايزيد، وترك بعضها الآخر مسمومًا حتى يُقتل الجيش المسلم شر قتلة، ثم قام بتحويل نهر صغير كان يروي أنقرة لاتجاه آخر حتى لا يصل لقوات بايزيد أي مدد من طعام أو شراب، خصوصًا وهو الجيش المُنهَك بقوة بعد معركة نيقوبوليس.
ولما علم بايزيد بذلك اضطر لأن يتجه في اتجاه الغرب بمسيرة ثمانية أيام تحت أشعة الشمس الحارقة في الصيف الحارق؛ ما أنهك الجيش العثماني بقوة، وحالت قوات تيمور بينهم وبين الماء عندما وصلوا إلى أرض المعركة، فاستغل تيمور هذه الأمور وسارع في البدء بالمعركة [6].
أظهر بايزيد في المعركة شجاعة وبسالة لا مثيل لها، حتى أن تيمور ذاته أُعجِب بها وهو خصمه اللدود، ولكن ما حدث من خيانات قلبت موازين المعركة رأسًا على عقبٍ.
فقد راسل تيمورلنك أمراء المغول في جيش بايزيد، والذين كانوا يمثلون ثلثي الجيش، فكاتبهم حتى استمالهم بالعصبية المغولية، وبأمور أخرى كتمنيتهم بالحكم في مناطق أوسع، وغير ذلك من الأمور التي جاءت بنتيجة معهم وجعلتهم ينسحبون عند بدء المعركة، كما انسحبت القوات التركية التي انضمت إليه حديثًا، وتركوا بايزيد وحده يلاقي حتفه ومن بقي معه من قوات الصرب [7].
ورغم هذا كله، وهذه الظروف المعاكسة، استمر بايزيد في الحرب التي اشتد وطيسها إلى أعالي السماء، وأثبتت القوات الانكشارية قوتها وبراعتها بشكل منقطع النظير. ولكن المعركة كانت واضحة المعالم، وأنها محسومة لتيمور، خصوصًا بعد هذه الانسحابات المتتالية من جيش بايزيد، حتى أن ابنه الأمير سليمان بن بايزيد والصدر الأعظم علي باشا طلبا من بايزيد أن يفر، إلا أنه استمر في الحرب دون تقدير للنتائج، ولم يُعِرْ التفاته لطلب ابنه والصدر الأعظم علي باشا؛ لذلك انسحب الاثنان باتجاه بورصة، كما انسحبت القوات الصربية سريعًا إلى أماسيا [8].
وكان واضحًا أن العثمانيين سيُهزَمون لا محالة. وهنا يبرز خطأ بايزيد، وهو استمراره في المعركة حتى هذه اللحظة، وهو ذو الخبرة العسكرية الكبرى، والوعي والفهم الكبيرين الذين جعلا من اسمه صاعقة على رؤوس الأعداء، إلا أنه أخطأ خطأ كبيرًا كلفهُ هزيمةً ساحقةً حلت به في هذه المعركة نتيجة الاستمرار فيها رغم ما يحدث من انسحابات وخيانات كبرى في جيشه
تابع
تكلمنا في المقال السابق عن تيمورلنك، وعن بدايات الصدام مع الدولة العثمانية، وأسباب التصارع بين القوتين الكبيرتين آنذاك. وتوقفنا عند تساؤل هام عن موقف القوى النصرانية من هذا الصراع.
موقف النصارى
يقول رب العزة عز وجل:
﴿وَلَن تَرْضَىٰ عَنكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَىٰ حَتَّىٰ تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ ۗ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَىٰ ۗ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ۙ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ﴾
سبحان الله! فهذا هو الواقع الذي عايشناه على مر التاريخ ونحياه الآن، ولكن للأسف الشديد لا يفقه الحكام هذا، أو على الأقل يتناسونه ويقيمون معهم المفاوضات بانتكاسات وخضوع وخنوع، ولو على حساب إخوانهم من المسلمين. وهذا ما فعله النصارى في هذا الموقف، ففور قرع طبول الحرب، شجعها العالم النصراني؛ إذ أن هذا ما كان يتمناه البابا والحكام الأوروبيون، والإمبراطور البيزنطي، بأن تشتعل الحرب بين العثمانيين والمغول من جديد.
ومع اشتعال الصراع، شعرت أوروبا بتنفس الصعداء [1]، وخاصة القسطنطينية. بل أجرى الإمبراطور البيزنطي مفاوضات مع تيمورلنك على الفور، وحذا حذوه شارل الخامس ملك فرنسا، حتى إن إمارة «طرابزون» الصغيرة، أعلنت استعدادها للسماح لتيمورلنك باستخدام مينائها الوحيد، وكذلك وعده أهالي «جنوه» الذين يديرون منطقة «بيزا» الواقعة عند القرن الذهبي لإرسال سفنهم ومنع أي إمدادات عسكرية للعثمانيين إذا ما حاولت العبور إلى آسيا الصغرى في حال ما بدأت الحرب [2]. وكان كل هذا سعيًا للقضاء التام على الدولة العثمانية، بل وإجلائها بالكامل من أوروبا. فأي حقد هذا في قلوب هؤلاء!
معركة أنقرة
كان بايزيد يخطط أن تكون المعركة بينه وبين تيمور خارج حدود الدولة، لا سيما وقد اقترب موسم حصاد الفاكهة، ولا يريد تخريب طعام وتجارة المدينة. أما تيمورلنك فكان يخطط للتوغل السريع بقواته ولمسافات بعيدة في الأراضي العثمانية، وذلك بهدف إرباك بايزيد وقواته؛ حتى تتشتت ولا تعرف أين تقاتل أهنا أم هناك [3].
وعلى هذا، زحف تيمورلنك باتجاه الأناضول، وقد حرص على إخفاء قواته خلف الجبال، وأتلف المزروعات أثناء طريقه، ودمر البلاد التي مر بها خلال عملية الزحف، وكانت حجته في هذا إيجاد وجمع الأعلاف للخيول [4].
تقدم تيمورلنك إلى «سيواس» -والتي كما ذكرنا كان يعتبرها نقطة جوهرية بالنسبة له-؛ فاحتلها وأباد حاميتها، والتي كان يقودها الأمير أرطغرل بن بايزيد [5]، فكما لو أنه أراد أن يفتك بسيواس على رفضها الدخول في طاعته من قبل، وأن ينتقم من بايزيد في ابنه أرطغرل رحمهما الله.
وقفة
يجب ألا نعجب أبدًا من هذه الحجج التافهة التي تتردد على المسامع من تدمير المدن والزروع لأجل إيجاد طعام للخيول، ألم يكن يستطيع أن يجمع الأعلاف لهم دون حرق المحاصيل ودون قتل البشر ودون تخريب المدن؟! ولكن لا نعجب من هذه الأمور، والتي على إثرها يُذبح المسلمون ويُقتَّلون ويُشرَّدون ويصبحون لاجئين في دول الغرب النصراني، فأوَّاهُ على سوريا اليوم!
المعركة
مدينة أنقرة التاريخية
التقى الجيشان قرب أنقرة، حيث يتضح أن المعركة ستكون هناك، ولذلك أرسل تيمور طليعة من جيشه لردم الآبار من اتجاه بايزيد، وترك بعضها الآخر مسمومًا حتى يُقتل الجيش المسلم شر قتلة، ثم قام بتحويل نهر صغير كان يروي أنقرة لاتجاه آخر حتى لا يصل لقوات بايزيد أي مدد من طعام أو شراب، خصوصًا وهو الجيش المُنهَك بقوة بعد معركة نيقوبوليس.
ولما علم بايزيد بذلك اضطر لأن يتجه في اتجاه الغرب بمسيرة ثمانية أيام تحت أشعة الشمس الحارقة في الصيف الحارق؛ ما أنهك الجيش العثماني بقوة، وحالت قوات تيمور بينهم وبين الماء عندما وصلوا إلى أرض المعركة، فاستغل تيمور هذه الأمور وسارع في البدء بالمعركة [6].
أظهر بايزيد في المعركة شجاعة وبسالة لا مثيل لها، حتى أن تيمور ذاته أُعجِب بها وهو خصمه اللدود، ولكن ما حدث من خيانات قلبت موازين المعركة رأسًا على عقبٍ.
فقد راسل تيمورلنك أمراء المغول في جيش بايزيد، والذين كانوا يمثلون ثلثي الجيش، فكاتبهم حتى استمالهم بالعصبية المغولية، وبأمور أخرى كتمنيتهم بالحكم في مناطق أوسع، وغير ذلك من الأمور التي جاءت بنتيجة معهم وجعلتهم ينسحبون عند بدء المعركة، كما انسحبت القوات التركية التي انضمت إليه حديثًا، وتركوا بايزيد وحده يلاقي حتفه ومن بقي معه من قوات الصرب [7].
ورغم هذا كله، وهذه الظروف المعاكسة، استمر بايزيد في الحرب التي اشتد وطيسها إلى أعالي السماء، وأثبتت القوات الانكشارية قوتها وبراعتها بشكل منقطع النظير. ولكن المعركة كانت واضحة المعالم، وأنها محسومة لتيمور، خصوصًا بعد هذه الانسحابات المتتالية من جيش بايزيد، حتى أن ابنه الأمير سليمان بن بايزيد والصدر الأعظم علي باشا طلبا من بايزيد أن يفر، إلا أنه استمر في الحرب دون تقدير للنتائج، ولم يُعِرْ التفاته لطلب ابنه والصدر الأعظم علي باشا؛ لذلك انسحب الاثنان باتجاه بورصة، كما انسحبت القوات الصربية سريعًا إلى أماسيا [8].
وكان واضحًا أن العثمانيين سيُهزَمون لا محالة. وهنا يبرز خطأ بايزيد، وهو استمراره في المعركة حتى هذه اللحظة، وهو ذو الخبرة العسكرية الكبرى، والوعي والفهم الكبيرين الذين جعلا من اسمه صاعقة على رؤوس الأعداء، إلا أنه أخطأ خطأ كبيرًا كلفهُ هزيمةً ساحقةً حلت به في هذه المعركة نتيجة الاستمرار فيها رغم ما يحدث من انسحابات وخيانات كبرى في جيشه
تابع