سلسلة من علماء الفقه

Nabil

التحالف يجمعنا
مستشار المنتدى
إنضم
4/5/19
المشاركات
10,843
التفاعلات
19,859
سلسلة من علماء الفقه
الإمام أبو حنيفة



نسبه وقبيلته :
هو النعمان بن ثابت بن المَرْزُبان، وكنيته أبو حنيفة، من أبناء فارس الأحرار، ينتسب إلى أسرة شريفة في قومه، أصله من كابل (عاصمة أفغانستان اليوم)، أسلم جَدُّه المرزُبان أيام عمر رضي الله عنه، وتحوَّل إلى الكوفة، واتخذها سكنًا.

مولده ونشأته:
وُلِد أبو حنيفة رحمه الله بالكوفة سنة ثمانين من الهجرة على القول الراجح (699م). ونشأ رحمه الله بالكوفة في أسرة مسلمة صالحة غنية كريمة، ويبدو أنه كان وحيد أبويه، وكان أبوه يبيع الأثواب في دكان له بالكوفة، ولقد خَلَف أبو حنيفة أباه بعد ذلك فيه. حفظ أبو حنيفة القرآن الكريم في صغره، شأنه شأن أمثاله من ذوي النباهة والصلاح. وحين بلغ السادسة عشرة من عمره خرج به أبوه لأداء فريضة الحج وزياة مسجد النبي صلى الله عليه وسلم .
وكان أول ما اتجه إليه أبو حنيفة من العلوم علم أصول الدين ومناقشة أهل الإلحاد والضلال، ولقد دخل البصرة أكثر من سبع وعشرين مرة، يناقش تارةً ويجادل ويرد الشبهات عن الشريعة تارة أخرى، وكان يدفع عن الشريعة ما يريد أهل الضلال أن يلصقوه بها، فناقش جهم بن صفوان حتى أسكته، وجادل الملاحدة حتى أقرَّهم على الشريعة، كما ناظر المعتزلة والخوارج فألزمهم الحجة، وجادل غلاة الشيعة فأقنعهم.

مضى الإمام أبو حنيفة رحمه الله في هذه السبيل من علم الكلام وأصول الدين، ومجادلة الزائغين وأهل الضلال، حتى أصبح عَلَمًا يُشار إليه بالبنان، وهو ما يزال في العشرين من عمره، وقد اتخذ حلقة خاصة في مسجد الكوفة، يجلس إليه فيها طلاب هذا النوع من العلوم. ثم توجَّه أبو حنيفه رحمه الله إلى علم الفقه، وتفقَّه على حمَّاد بن أبي سليمان، حتى صار مقرَّبًا عنده؛ قال حماد: "لا يجلس في صدر الحلقة بحذائي غير أبي حنيفة".

ملامح شخصيته وأخلاقه:
ورعه وعلمه:
كان زاهدًا ورعًا، أراده يزيد بن هبيرة أمير العراق أيام مروان بن محمد أن يلي القضاء فأَبَى، وأراده بعد ذلك المنصور العباسي على القضاء فامتنع، وقال: "لن أصلح للقضاء". فحلف عليه المنصور ليفعلَنَّ، فحلف أبو حنيفة أنه لن يفعل؛ فحبسه المنصور.
قال ابن المبارك: قلتُ لسفيان الثوري: ما أبعد أبا حنيفة عن الغيبة، ما سمعتُه يغتاب عدوًّا له. قال: والله هو أعقل من أن يُسلِّط على حسناته ما يذهب بها.
وكان واسع العلم في كل العلوم الإسلامية، وهو الذي تجرَّد لفرض المسائل وتقدير وقوعها وفرض أحكامها بالقياس، وفرَّع للفقه فروعًا زاد في فروعه، وقد تبع أبا حنيفة جُلُّ الفقهاء بعده، ففرضوا المسائل وقدروا وقوعها ثم بيَّنوا أحكامها.

عبادته لله تعالى:
كان أبو حنيفة يختم القرآن في كل يوم، ثم حين اشتغل بالأصول والاستنباط واجتمع حوله الأصحاب أخذ يختمه في ثلاثٍ في الوتر. وصلى أبو حنيفة ثلاثين سنة صلاة الفجر بوضوء العتمة، وحجَّ خمسًا وخمسين حجة.
قال مِسْعَر بن كِدَام: "رأيتُ الإمام يصلي الغداة ثم يجلس للعلم إلى أن يصلي الظهر، ثم يجلس إلى العصر ثم إلى قريب المغرب ثم إلى العشاء، فقلتُ في نفسي: متى يتفرغ للعبادة؟ فلما هدأ الناس خرج إلى المسجد - وكان بيته بجوار المسجد الذي يؤم فيه حِسْبة لله تعالى - فانتصب للصلاة إلى الفجر، ثم دخل فلبس ثيابه - وكانت له ثياب خاصة يلبسها لقيام الليل - وخرج إلى صلاة الصبح ففعل كما فعل، ثم تعاهدته على هذه الحالة فما رأيته مفطرًا، ولا بالليل نائمًا".

شيوخه:
بلغ عدد شيوخ أبي حنيفة رحمه الله أربعة آلاف شيخ، فيهم سبعة من الصحابة، وثلاثة وتسعون من التابعين، والباقي من أتباعهم، ولا غرابة في هذا ولا عجب، فقد عاش رحمه الله تعالى سبعين سنة، وحج خمسًا وخمسين مرة، وموسم الحج يجمع علماء العالم الإسلامي في الحرمين الشريفين. قال الإمام أبو حفص الكبير بعد أن ذكر عدد شيوخ الإمام رحمه الله: "وقد صنَّف في ذلك جماعة من العلماء، ورتبوهم على ترتيب حروف المعجم".
وأستاذ الإمام أبي حنيفة هو حماد بن أبي سليمان، وهو تابعيٌّ كوفي ثقة، روى عنه أبو حنيفة رحمه الله ألفي حديث من أحاديث الأحكام، وأكثر من ثلث أحاديث الإمام في مسنده الذي جمعه الحَصْكَفي، هي برواية الإمام عنه، عن إبراهيم بن أبي موسى الأشعري، عن الأسود، عن عائشة رضي الله عنهم.
ومن شيوخه رحمه الله أيضًا: إبراهيم بن محمد المنتشر الكوفي، وإبراهيم بن يزيد النخعي الكوفي، وأيوب السختياني البصري، والحارث بن عبد الرحمن الهمذاني الكوفي، وربيعة بن عبد الرحمن المدني المعروف بربيعة الرأي، وسالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) أحد الفقهاء السبعة، وسعيد بن مسروق والد سفيان الثوري، وسليمان بن يسار الهلالي المدني، وعاصم بن كليب بن شهاب الكوفي، وغيرهم الكثير.

تلامذته :
روى عنه جماعة، منهم: ابنه حماد، وإبراهيم بن طهمان، وإسحاق بن يوسف الأزرق، وأسد بن عمرو القاضي، والحسن بن زياد اللؤلئِيُّ، وحمزة الزيات، وداود الطائي، وزفر، وعبد الرزاق، وأبو نعيم، ومحمد بن الحسن الشيباني، وهشيم، ووكيع، وأبو يوسف القاضي، وغيرهم كثير.

منهجه في البحث:
ابتكر الإمام أبو حنيفة رحمه الله نموذجًا منهجيًّا في تقرير مسائل الاجتهاد، وذلك عن طريق عرض المسألة على تلاميذ العلماء في حلقة الدرس ليدلي كلٌّ بدلوه، ويذكر ما يرى لرأيه من حجة، ثم يعقِّب هو على آرائهم بما يدفعها بالنقل أو الرأي، ويصوِّب صواب أهل الصواب، ويؤيده بما عنده من أدلةٍ، ولربما تقضَّت أيام حتى يتم تقرير تلك المسألة. وهذه هي الدراسة المنهجية الحرة الشريفة التي يظهر فيها احترام الآراء، ويشتغل فيها عقل الحاضرين من التلامذة، كما يظهر علم الأستاذ وفضله، فإذا تقررت مسألة من مسائل الفقه على تلك الطريقة، كان من العسير نقدها فضلاً عن نقضها.
قال المُوفَّق المكي: "وضع أبو حنيفة رحمه الله مذهبه شورى بينهم، لم يستبد فيه بنفسه دونهم اجتهادًا منه في الدين، ومبالغة في النصيحة لله ولرسوله والمؤمنين، فكان يلقي مسألة مسألة، يقلِّبها ويسمع ما عندهم ويقول ما عنده، وربما ناظرهم شهرًا أو أكثر من ذلك، حتى يستقر أحد الأقوال فيها، ثم يثبتها القاضي أبو يوسف في الأصول، حتى أثبت الأصول كلها. وإذا أُشكلت عليه مسألة قال لأصحابه: ما هذا إلا لذنب أذنبته. ويستغفر، وربما قام وصلَّى، فتنكشف له المسألة، ويقول: رجوتُ أنه تيب عليَّ".

آراء العلماء فيه:
قال وكيع بن الجرَّاح شيخ الشافعي: "كان أبو حنيفة عظيم الأمانة، وكان يُؤثِر الله على كل شيءٍ، ولو أخذته السيوف في الله تعالى لاحتملها". وقال الإمام الشافعي: "ما طلب أحد الفقه إلا كان عيالاً على أبي حنيفة، وما قامت النساء على رجلٍ أعقل من أبي حنيفة".
وقال الإمام أحمد بن حنبل: "إن أبا حنيفة من العلم والورع والزهد وإيثار الآخرة بمحلٍّ لا يدركه أحد، ولقد ضُرب بالسياط لِيَلِيَ للمنصور فلم يفعل، فرحمة الله عليه ورضوانه". وقال الإمام أبو يوسف: "كانوا يقولون: أبو حنيفة زينَّه الله بالفقه، والعلم، والسخاء، والبذل، وأخلاق القرآن التي كانت فيه". وقال عنه الإمام سفيان الثوري: "ما مقلت عيناي مثل أبي حنيفة".

وفاته :
تُوفِّي رحمه الله ببغداد سنة 150هـ/ 767م. يقول ابن كثير: "وصُلِّي عليه ببغداد ست مرات لكثرة الزحام، وقبره هناك رحمه الله".

عن موقع قصة الإسلام

المراجع:
- أبو حنيفة النعمان إمام الأئمة الفقهاء، وهبي سليمان، دار القلم.
- البداية والنهاية، الحافظ ابن كثير.

يتبع

 
التعديل الأخير:
الإمام مالك بن أنس


نسبه وقبيلته :
هو مالك بن أنس بن مالك بن أبي عامر بن عمرو بن الحارث الأصبحي. وكان أبو عامر - أبو جَدِّ مالك - حليف عثمان بن عبيد الله التيمي القرشي، وكنيته أبو عبد الله من سادات أتباع التابعين، وجلّة الفقهاء والصالحين. وأمه هي عالية بنت شريك الأزدية. وُلِد بالمدينة المنورة سنةَ 93 هـ/ 703 م، وعاش فيها.

طفولته وتربيته:
بدأ الإمام مالك طلبه للعلم وهو غض طري، فحصل من العلم الكثير، وتأهل للفتيا، وجلس للإفادة وهو ابن إحدى وعشرين سنة، كما قصده طلاب العلم من كل حدب وصوب.

أهم ملامح شخصيته وأخلاقه:
صفته الخَلقية:
قال مصعب الزبيري: "كان مالك من أحسن الناس وجهًا، وأحلاهم عينًا، وأنقاهم بياضًا، وأتمهم طولاً في جودة بدن".
وقال أبو عاصم: "ما رأيت محدثًا أحسن وجهًا من مالك".

سعة علمه:
روى الترمذي بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي أنه قال: "يوشك أن يضرب الناس أكباد الإبل يطلبون العلم، فلا يجدون أحدًا أعلم من عالم المدينة". ثم قال: هذا حديث حسن. (ضعفه الألباني) وقد روي عن ابن عيينة أنه قال: هو مالك بن أنس. وكذا قال عبد الرزاق.

كثرة عبادته:
قال أبو مصعب: "كان مالك يطيل الركوع والسجود في ورده، وإذا وقف في الصلاة كأنه خشبة يابسة لا يتحرك منه شيء".
وقالت فاطمة بنت مالك: "كان مالك يصلي كل ليلة حزبه، فإذا كانت ليلة الجمعة أحياها كلها".
قال ابن المبارك: "رأيت مالكًا فرأيته من الخاشعين، وإنما رفعه الله بسريرة كانت بينه وبين الله، وذلك أني كثيرًا ما كنت أسمعه يقول: من أحبَّ أن يفتح له فرجة في قلبه، وينجو من غمرات الموت، وأهوال يوم القيامة، فليكن في عمله في السر أكثر منه في العلانية".

هيبته وقدره ومجده:
قال سعيد بن أبي مريم: "ما رأيت أشد هيبة من مالك، لقد كانت هيبته أشد من هيبة السلطان".
وقال الشافعي: "ما هبت أحدًا قَطُّ هيبتي مالك بن أنس حين نظرت إليه".

شيوخه:
نافع بن أبي نعيم القارئ، وسعيد المقبري، والزهري، وابن المنكدر، ووهب بن كيسان، وعامر بن عبد الله بن الزبير، وخلق كثير سواهم.

تلامذته:
حدَّث عنه خلق من الأئمة، منهم السفيانان، وشعبة، وابن المبارك، والأوزاعي، وابن مهدي، وابن جريج، والليث، والشافعي، والزهري شيخه، ويحيى بن سعيد الأنصاري وهو شيخه، ويحيى بن سعيد القطان، ويحيى بن يحيى الأندلسي، ويحيى بن يحيى النيسابوري.
ومن أشهر من روى عنه أيضًا: عبد الله بن مسلمة القعنبي، وعبد الله بن وهب، ومعن بن عيسى القزاز، وداود بن أبي زَنْبَر، وابنه سعيد، وأبو بكر وإسماعيل ابنا أبي أويس، وعبد الملك بن عبد العزيز بن الماجشون، وعبد الله بن عبد الحكم المصري، والليث بن سعد من أصحاب مالك وعلى مذهبه ثم اختار لنفسه، وابن المعذل، وغيرهم.

المؤلفات:
له كتاب الموطأ، ورسالة في الوعظ، وكتاب المسائل، ورسالة في الرد على القدرية، وتفسير غريب القرآن.

منهجه في البحث:
كان للإمام مالك منهجٌ في الاستنباط الفقهي لم يدونه كما دوَّن بعض مناهجه في الرواية، ولكن مع ذلك صرح بكلام قد يستفاد منه بعض منهاجه، فقد ألمح إلى ذلك وهو يتحدث عن كتابه (الموطأ): "فيه حديث رسول الله وقول الصحابة والتابعين ورأيي، وقد تكلمت برأيي، وعلى الاجتهاد، وعلى ما أدركت عليه أهل العلم ببلدنا، ولم أخرج من جملتهم إلى غيره".
فهذه العبارة من الإمام تشير إلى بعض الأصول التي استند إليها في اجتهاداته واستنباطاته الفقهية، وهي: السنة، وقول الصحابة، وقول التابعين، والرأي، والاجتهاد، ثم عمل أهل المدينة.
ولعل أدق إحصاء لأصول المذهب المالكي هو ما ذكره (القرافي) في كتابه (شرح تنقيح الفصول)؛ حيث ذكر أن أصول المذهب هي القرآن والسنة والإجماع وإجماع أهل المدينة والقياس وقول الصحابي والمصلحة المرسلة والعرف والعادات وسد الذرائع والاستصحاب والاستحسان.

ما قيل عن الإمام مالك
قال البخاري: "أصح الأسانيد مالك عن نافع عن ابن عمر".
وقال سفيان بن عيينة: "ما كان أشد انتقاده للرجال".
وقال يحيى بن معين: "كل من روى عنه مالك فهو ثقة إلا أبا أمية".
وقال غير واحد: "هو أثبت أصحاب نافع والزهري".
وقال الشافعي: "إذا جاء الحديث فمالك النجم".
وقال: "إذا جاءك الأثر عن مالك فشد به يدك".
وقال أيضًا: "من أراد الحديث فهو عِيالٌ على مالك".

من كلماته الخالدة:
"كل أحدٍ يؤخذ من قوله ويترك إلا صاحب هذا القبر"، أي النبي صلى الله عليه وسلم.

وفاته:
تُوُفِّي الإمام مالك (رحمه الله) بالمدينة سنةَ 179هـ/ 795م، عن خمسٍ وثمانين سنة، ودُفِن بالبقيع.

عن موقع قصة الإسلام

المراجع:
- الوفيات، ابن قنفذ. - مشاهير علماء الأمصار، ابن حبان. - البداية والنهاية، ابن كثير.
- الفهرست، ابن النديم. - ترتيب المدارك وتقريب المسالك، القاضي عياض.

منارات في حياة الإمام مالك بن أنس رضي الله عنه

هو إمام دار الهجرة أبو عبد الله مالك بن أنس بن مالك بن أبى عامر بن عمرو بن الحارث بن غيمان بن خثيل بن عمرو بن الحارث، وهو ذو أصبح بن عوف بن مالك بن زيد بن شداد بن زرعة، وهو حمير الأصغر الحميري ثم الأصبحي المدني، حليف بني تيم من قريش، فهم حلفاء عثمان أخي طلحة بن عبيد الله أحد العشرة المبشرين بالجنة.

أمه عالية بنت شريك الأزدية، ولد عام موت الصحابي الجليل أنس خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة 93 للهجرة النبوية الشريفة، وتوفي صبيحة أربع عشرة من ربيع الأول سنة تسع وسبعين ومائة.

نبغ في العلم وتأهل للفتيا والتعليم وله إحدى وعشرون سنة، فكان مقصد الطلبة من كل أقطار المسلمين. وكانت له الأولوية في تصنيف الصحيح من السنة النبوية بتأليفه "الموطأ"، والأولوية في تنزيلها على واقع الحياة الفردية للمسلم برسالته إلى هارون الرشيد، والأولوية في الدفاع عن عقيدة السلف الصالح والمحافظة على صفائها في مواجهة الفرق الضالة مجسمة ومؤلة ومعطلة وباطنية. وقال عنه أكثر أئمة السنة أنه المعني بقوله صلى الله عليه وسلم:( ليضربن الناس أكباد الإبل في طلب العلم فلا يجدون عالما أعلم من عالم المدينة ).

قال العلامة محمد حبيب الله بن ما يأبي الجكني في أبيات نظمها:

أول من ألف في الصحيح * مالك الإمـام في الصحيح

قال ابن عيينة "مالك عالم أهل الحجاز وهو حجة زمانه"؛ وقال عنه أيضا:" كان مالك لا يبلغ من الحديث إلا صحيحا ولا يحدث إلا عن ثقة، ما أرى المدينة إلا ستخرب بعد موته" يعني من العلم.

وقال الشافعي: إذا ذكر العلماء فمالك النجم.
ولم يكن بالمدينة عالم من بعد التابعين يشبه مالكا في العلم والفقه والجلالة والحفظ، فقد كان بها بعد الصحابة مثل سعيد بن المسيب والفقهاء السبعة والقاسم وسالم وعكرمة ونافع وطبقتهم ثم زيد بن أسلم وابن شهاب وأبي الزناد ويحيى بن سعيد وصفوان بن سليم وربيعة بن أبي عبد الرحمن وطبقتهم، فلما تفانوا اشتهر بها ذكر مالك وابن أبي ذئب وعبد العزيز بن الماجشون وسليمان بن بلال وفليح بن سليمان وأقرانهم، وكان مالك هو المقدم فيهم على الإطلاق.

موقف الإمام مالك من المذهبية:
روى أبو مصعب قال: سمعت مالكا يقول دخلت على أبي جعفر أمير المؤمنين وقد نزل على فرش له، وإذا على بساطه دابتان ما تروثان ولا تبولان، وجاء صبي يخرج ثم يرجع فقال لي: أتدري من هذا؟ قلت: لا، قال: هذا ابني وإنما يفزع من هيبتك، ثم سألني عن أشياء منها حلال ومنها حرام ثم قال لي: أنت والله أعقل الناس وأعلم الناس، قلت: لا والله يا أمير المؤمنين، قال: بلى ولكنك تكتم، ثم قال: والله لئن بقيت لأكتبن قولك كما تكتب المصاحف ولأبعثن به إلى الآفاق فلأحملنهم عليه، فقال مالك: لا تفعل يا أمير المؤمنين، فإن أصحاب رسول تفرقوا في الأمصار وإن تفعل تكن فتنة.

موقف الإمام مالك من البدع
قال ابن الماجشون: سمعت مالكا يقول : من ابتدع في الإسلام بدعة يراها حسنة زعم أن محمداً صلى الله عليه وسلم خان الرسالة، لأن الله يقول: ﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ﴾ المائدة 3، فما لم يكن يومئذ ديناً فلا يكون اليوم ديناً .

قال الإمام مالك رحمه الله: " من ابتدع بدعة يراها حسنة فقد زعم أن محمدا صلى الله عليه وسلم خان الرسالة لأن الله تعالى يقول: ﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا ﴾ المائدة 3، وقال:" لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها، فما لم يكن يومئذ دينا لا يكون اليوم دينا ".

عقيدة الإمام مالك:
يروي يحيى ابن خلف الطرسوسي وكان من ثقات المسلمين قال: كنت عند مالك فدخل عليه رجل فقال: يا أبا عبد الله ما تقول فيمن يقول القرآن مخلوق؟ فقال مالك: زنديق اقتلوه، فقال: يا أبا عبد الله إنما أحكي كلاما سمعته، قال: إنما سمعته منك، وعظم هذا القول.
ويروى عن ابن وهب قال: سمعت مالكا يقول لرجل سأله عن القدر: نعم قال الله تعالى: ﴿ وَلَوْ شِئْنَا لَآَتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا ﴾ السجدة 13.
وقال جعفر بن عبد الله كنا عند مالك فجاءه رجل فقال يا أبا عبد الله ﴿ الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ﴾ طه 5، كيف استوى؟ فما وجد مالك من شيء ما وجد من مسألته فنظر إلى الأرض وجعل ينكت بعود في يده حتى علاه الرضا ثم رفع رأسه ورمى بالعود وقال: "الكيف منه غير معقول والاستواء منه غير مجهول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة، وأظنك صاحب بدعة" وأمر به فأخرج.
وفي رواية أخرى قال:" ﴿ الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ﴾ طه 5، كما وصف نفسه ولا يقال له كيف، وكيف عنه مرفوع، وأنت رجل سوء صاحب بدعة، أخرجوه".

محنة الإمام مالك
ناظر أبو جعفر أمير المؤمنين مالكا في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له مالك: "يا أمير المؤمنين لا ترفع صوتك في هذا المسجد فإن الله تعالى أدب قوما فقال:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ ﴾ الحجرات 2 ،
ومدح قوما فقال:
﴿
إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ ﴾ الحجرات 3،
وذم قوما فقال:
﴿
إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ ﴾ الحجرات 4 ، وإن حرمته ميتا كحرمته حيا"، فاستكان لها أبو جعفر.
تعرض الإمام مالك لمحنة وبلاء بسبب حسد ووشاية بينه وبين والي المدينة جعفر بن سليمان ويروى أنه ضرب بالسياط حتى أثر ذلك على يده، قال إبراهيم بن حماد: إنه كان ينظر إلى مالك إذا أقيم من مجلسه حمل يده بالأخرى، ويقول الواقدي: لما ولي جعفر بن سليمان المدينة سعوا بمالك إليه وكثروا عليه عنده وقالوا: لا يرى أيمان بيعتكم هذه بشيء، وهو يأخذ بحديث رواه عن ثابت بن الأحنف في طلاق المكره أنه لا يجوز عنده، قال فغضب جعفر فدعا بمالك فاحتج عليه بما رفع إليه عنه فأمر بتجريده وضربه بالسياط وجبذت يده حتى انخلعت من كتفه وارتكب منه أمر عظيم.

عن موقع مركز الشرق العربي
يتبع
 
التعديل الأخير:
الإمام الشافعي


النسب والمولد:
هو أبو عبد الله محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع بن السائب بن عبد يزيد بن هاشم بن عبد المطلب بن عبد مناف. يلتقي الشافعي مع الرسول صلى الله عليه وسلم في جَدِّه عبد مناف، فالشافعي (رحمه الله) قرشي أصيل. أمَّا أمُّه فإن أكثر من أرَّخ للشافعي أو ترجم له قد اتفقوا على أن أمَّه أزدية أو أسدية، فهي من قبيلة عربية أصيلة.
وقد وُلِد بغزَّة في شهر رجب سنةَ 150هـ/ أغسطس 767م، ولما مات أبوه انتقلت به أمُّه إلى مكة؛ وذلك لأنهم كانوا فقراء، ولئلا يضيع نَسَبُه، ثم تنقَّل (رحمه الله) بين البلاد في طلب العلم.
وكان الشافعي (رحمه الله) رجلاً طويلاً، حسن الخلق، محببًا إلى الناس، نظيف الثياب، فصيح اللسان، شديد المهابة، كثير الإحسان إلى الخلق، وكان يستعمل الخضاب بالحمرة عملاً بالسنة، وكان جميل الصوت في القراءة.

ملامح شخصيته وأخلاقه:
سعة علمه وفقهه:
لقد عُرف الشافعي بالنجابة والذكاء والعقل منذ أن كان صغيرًا، وشهد له بذلك الشيوخ من أهل مكة؛
قال الحميدي: "كان ابن عيينة، ومسلم بن خالد، وسعيد بن سالم، وعبد المجيد بن عبد العزيز، وشيوخ أهل مكة يصفون الشافعي ويعرفونه من صغره، مقدمًا عندهم بالذكاء والعقل والصيانة، لم يُعرف له صبوة".
وقال الربيع بن سليمان - تلميذ الشافعي وخادمه وراوي كتبه -: "لو وُزِن عقل الشافعي بنصف عقل أهل الأرض لرجحهم، ولو كان من بني إسرائيل لاحتاجوا إليه".

تقواه وورعه وعبادته:
وكما كان الشافعي (رحمه الله) إمامًا في الاجتهاد والفقه، كان كذلك إمامًا في الإيمان والتقوى والورع والعبادة؛ فعن الربيع قال: "كان الشافعي قد جزّأ الليل ثلاثة أجزاء: الثلث الأول يكتب، والثلث الثاني يصلي، والثلث الثالث ينام". وكان رحمه الله لا يقرأ قرآنًا بالليل إلا في صلاة،
يقول المزني: "ما رأيت الشافعي قرأ قرآنًا قَطُّ بالليل إلا وهو في الصلاة".

شيوخه:
شيوخه بالمدينة: الإمام مالك بن أنس، وإبراهيم بن سعد الأنصاري، وعبد العزيز بن محمد الدراوردي، وإبراهيم بن أبي يحيى، ومحمد بن سعيد بن أبي فديك، وعبد الله بن نافع الصائغ.
وشيوخه باليمن: مطرف بن مازن، وهشام بن يوسف قاضي صنعاء، وعمرو بن أبي سلمة صاحب الأوزاعي، ويحيى بن حسان.
شيوخه بالعراق: وكيع بن الجراح، وأبو أسامة حماد بن أسامة الكوفيان، وإسماعيل بن علية، وعبد الوهاب بن عبد المجيد البصريان.

تلامذته:
نبغ على الشافعي كثير من الناس، في مقدمتهم أبو عبد الله أحمد بن حنبل، والحسن بن محمد الصباح الزعفراني، والحسين الكرابيسي، وأبو ثور إبراهيم بن خالد الكلبي، وأبو إبراهيم إسماعيل بن يحيى المزني، وأبو محمد الربيع بن سليمان المرادي، والربيع بن سليمان الجيزي، وأبو يعقوب يوسف بن يحيى البويطي، وأبو حفص حرملة بن يحيى بن عبد الله التجيبي، وأبو يوسف يونس بن عبد الأعلى، ومحمد بن عبد الله بن عبد الحكم المصري، وعبد الله بن الزبير الحميدي.

مؤلفاته:
لم يُعرف لإمام قبل الشافعي من المؤلفات في الأصول والفروع والفقه وأدلته، بل في التفسير والأدب ما عرف للشافعي كثرةً وبراعةً وإحكامًا؛
يقول ابن زُولاق: "صنف الشافعي نحوًا من مائتي جزء".
ولقد كان في سرعة التاليف مع الدقة والنضج والإتقان أعجوبة منقطع النظير، حتى إنه ربما أنجز كتابًا في نصف نهار.
يقول يونس بن عبد الأعلى: "كان الشافعي يضع الكتاب من غدوة إلى الظهر".

ومن مؤلفاته رحمه الله:
كتاب (الرسالة) وهو أول كتاب وضع في أصول الفقه ومعرفة الناسخ من المنسوخ، بل هو أول كتاب في أصول الحديث. وألَّف كتابًا اسمه (جماع العلم)، دافع فيه عن السنة دفاعًا مجيدًا، وأثبت ضرورية حجية السنة في الشريعة. وكتاب (الأم)، و(الإملاء الصغير)، و(الأمالي الكبرى)، و(مختصر المزني)، و(مختصر البويطي)، وغيرها.

منهجه:
أخذ الشافعي بالمصالح المرسلة والاستصلاح، ولكن لم يسمها بهذا الاسم، وأدخلها ضمن القياس وشرحها شرحًا موسعًا. وكذلك كان الشافعي يأخذ بالعرف مثل مالك. وكان الشافعي يتمسك بالأحاديث الصحيحة، ويُعرِض عن الأخبار الواهية والموضوعة، واعتنى بذلك عناية فائقة؛
قال أبو زُرعة: "ما عند الشافعي حديث فيه غلط".
وقد وضع الشافعي في فن مصطلح الحديث مصطلحات كثيرة، لم يُسبَق إليها، مثل: الاتصال، والشاذ، والثقة، والفرق بين حدَّثنا وأخبرنا.

ما قيل عنه:
قال المزني: "ما رأيت أحسن وجهًا من الشافعي، إذا قبض على لحيته لا يفضل عن قبضته".
قال يونس بن عبد الأعلى: "لو جمعت أمة لوسعهم عقل الشافعي".
وقال إسحاق بن راهويه: "لقيني أحمد بن حنبل بمكة، فقال: تعالَ حتى أريك رجلاً لم ترَ عيناك مثله. قال: فأقامني على الشافعي".
وقال أبو ثور الفقيه: "ما رأيت مثل الشافعي، ولا رأى مثل نفسه".
وقال أبو داود: "ما أعلم للشافعي حديثًا خطأً".

بعض كلماته:
- طلب العلم أفضل من صلاة النافلة.
- من ضُحِكَ منه في مسألة لم ينسها أبدًا.
- من حضر مجلس العلم بلا محبرة وورق، كان كمن حضر الطاحون بغير قمح.
- من تعلم القرآن عظمت قيمته، ومن نظر في الفقه نبل مقداره، ومن تعلم اللغة رقَّ طبعه، ومن تعلم الحساب جزل رأيه، ومن كتب الحديث قويت حجته، ومن لم يصن نفسه لم ينفعه علمه.
إذا حارَ أمرُكَ في معنيين * ولم تدرِ فيما الخطا و الصواب
فخالِفْ هواكَ فإنَّ الهوَى * يقودُ النفوسَ إلى ما يعاب

وفاته:
ألحَّ على الشافعي المرض وأذابه السقم ووقف الموت ببابه ينتظر انتهاء الأجل. وفي هذه الحال، دخل عليه تلميذه المزني فقال: كيف أصبحت؟ قال: "أصبحتُ من الدنيا راحلاً، وللإخوان مفارقًا، ولكأس المنيَّة شاربًا، وعلى الله جلَّ ذكره واردًا، ولا والله ما أدري روحي تصير إلى الجنة فأهنِّئها، أو إلى النار فأعزِّيها"، ثم بكى.
وقد دُفِنَ الشافعي (رحمة الله تعالى عليه) بالقاهرة في أول شعبان، يوم الجمعة سنةَ 204هـ/ 820م. وكان له ولدان ذكران وبنت، وكان قد تزوج من امرأة واحدة.

المراجع :
- جمهرة أنساب العرب، ابن الكلبي. - العبر في خبر من غبر، الذهبي. - الوافي بالوفيات، الصفدي.
- صفة الصفوة، ابن الجوزي. - الإمام الشافعي فقيه السنة الأكبر، عبد الغني الدقر، ط دار القلم.
- تاريخ التشريع الإسلامي، الخضري. - مقدمة كتاب الأم للشافعي رحمه الله.

عن موقع قصة الإسلام

يتبع
 
الإمام أحمد بن حنبل


نسبه وقبيلته:
هو أبو عبد الله أحمد بن أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني. قال ابن الأثير: "ليس في العرب أعز دارًا، ولا أمنع جارًا، ولا أكثر خلقًا من شيبان". وكان في قبيلة شيبان الكثير من القادة والعلماء والأدباء والشعراء، فالإمام أحمد عربي أصيل ينتمي إلى هذه القبيلة، وهي قبيلةٌ ربعيةٌ عدنانيةٌ، تلتقي مع النبي صلى الله عليه وسلم في نزار بن معد بن عدنان. وكان الإمام أحمد (رحمه الله) رجلاً طوالاً رقيقًا، أسمر اللون، كثير التواضع. وقد وُلِد ببغداد سنةَ 164هـ/ 780م.

طفولته وتربيته:
نشأ أحمد بن حنبل يتيمًا، وكسائر أترابه تعلم القرآن في صغره، وتلاه تلاوة جيدة وحفظه عن ظهر قلب، وعندما تجاوز الخامسة عشرة من عمره بدأ يطلب العلم، وأول من طلب العلم عليه هو الإمام أبو يوسف القاضي، والإمام أبو يوسف - كما هو معلوم - من أئمة الرأي مع كونه محدِّثًا، ولكن مع مرور الوقت وجد الإمام أحمد أنه يرتاح لطلب الحديث أكثر، فتحوَّل إلى مجالس الحديث، وأعجبه هذا النهج واتفق مع صلاحه وورعه وتقواه، وأخذ يجول ويرحل في سبيل الحديث حتى ذهب إلى الشامات والسواحل والمغرب والجزائر ومكة والمدينة والحجاز واليمن والعراق وفارس وخراسان والجبال والأطراف والثغور، وهذا فقط في مرحلته الأولى من حياته. ولقد التقى الشافعي في أول رحلة من رحلاته الحجازية في الحرم، وأُعجِبَ به، وظلَّ الإمام أحمد أربعين سنة ما ييبت ليلة إلا ويدعو فيها للشافعي. وقد حيل بين أحمد ومالك بن أنس فلم يوفَّق للقائه، وكان يقول: "لقد حُرِمتُ لقاء مالك، فعوَّضني الله عز وجل عنه سفيان بن عيينة".

أهم ملامح شخصيته وأخلاقه:
ورعه وتقواه وتعففه:
كان رحمه الله عفيفًا، فقد كان يسترزق بأدنى عمل، وكان يرفض أن يأخذ من صديق ولا شيخ ولا حاكم قرضًا أو هبة أو إرثًا لأحدٍ يؤثره به.
قال أبو داود: "كانت مجالس أحمد مجالس آخرة، لا يُذكر فيها شيء من أمر الدنيا، وما رأيت أحمد بن حنبل ذكر الدنيا قَطُّ".

ثبات الإمام رغم المحنة:
كان الإمام أحمد على موعد مع المحنة التي تحملها في شجاعة، ورفض الخضوع والتنازل في القول بمسألة عمَّ البلاء بها، وحمل الخليفة المأمون الناس على قبولها قسرًا وقهرًا دون دليل أو بيِّنة.
وتفاصيل تلك المحنة أن المأمون أعلن في سنة (218 هـ/ 833 م) دعوته إلى القول بأن القرآن مخلوق كغيره من المخلوقات، وحمل الفقهاء على قبولها، ولو اقتضى ذلك تعريضهم للتعذيب، فامتثلوا خوفًا ورهبًا، وامتنع أحمد بن حنبل ومحمد بن نوح عن القول بما يطلبه الخليفة، فكُبّلا بالحديد، وبُعث بهما إلى بغداد إلى المأمون الذي كان في طرسوس، لينظر في أمرهما، غير أنه توفِّي وهما في طريقهما إليه، فأعيدا مكبّلين إلى بغداد.
وفي طريق العودة قضى محمد بن نوح نحبه في مدينة الرقة، بعد أن أوصى رفيقه بقوله: "أنت رجل يُقتدى به، وقد مدَّ الخلق أعناقهم إليك لما يكون منك؛ فاتقِ الله واثبت لأمر الله".
وكان الإمام أحمد عند حسن الظن، فلم تلن عزيمته، أو يضعف إيمانه أو تهتز ثقته، فمكث في المسجد عامين وثلث عام، وهو صامد كالرواسي، وحُمل إلى الخليفة المعتصم الذي واصل سيرة أخيه على حمل الناس على القول بخلق القرآن، واتُّخذت معه في حضرة الخليفة وسائل الترغيب والترهيب، ليظفر المجتمعون منه بكلمة واحدة، تؤيدهم فيما يزعمون، يقولون له: ما تقول في القرآن؟ فيجيب: هو كلام الله. فيقولون له: أمخلوق هو؟ فيجيب: هو كلام الله. ولا يزيد على ذلك.
ويبالغ الخليفة في استمالته وترغيبه ليجيبهم إلى مقالتهم، لكنه كان يزداد إصرارًا، فلما أيسوا منه علَّقوه من عقبيه، وراحوا يضربونه بالسياط، ولم تأخذهم شفقة وهم يتعاقبون على جلد جسد الإمام الواهن بسياطهم الغليظة حتى أغمي عليه، ثم أُطلق سراحه وعاد إلى بيته، ثم مُنع من الاجتماع بالناس في عهد الخليفة الواثق (227- 232هـ/ 841- 846م)، لا يخرج من بيته إلا للصلاة، حتى إذا ولي المتوكل الخلافة سنة (232هـ/ 846م)، فمنع القول بخلق القرآن، وردَّ للإمام أحمد اعتباره، فعاد إلى الدرس والتحديث في المسجد.

شيوخه:
هشيم، وسفيان بن عيينة، وإبراهيم بن سعد، وجرير بن عبد الحميد، ويحيى القطان، والوليد بن مسلم، وإسماعيل بن علية، وعلي بن هاشم بن البريد، ومعتمر بن سليمان، وعمر بن محمد ابن أخت الثوري، ويحيى بن سليم الطائفي، وغندر، وبشر بن المفضل، وزياد البكائي، وأبو بكر بن عياش، وأبو خالد الأحمر، وعباد بن عباد المهلبي، وعباد بن العوام، وعبد العزيز بن عبد الصمد العمي، وعمر بن عبيد الطنافسي، والمطلب بن زياد، ويحيى بن أبي زائدة، والقاضي أبو يوسف، ووكيع، وابن نمير، وعبد الرحمن بن مهدي، ويزيد بن هارون، وعبد الرزاق، والشافعي، وغيرهم.

تلاميذه:
البخاري، ومسلم، وأبو داود، وابناه صالح وعبد الله، وشيوخه عبد الرزاق، والحسن بن موسى الأشيب. ومن تلاميذه أيضًا أبو بكر المروزي الفقيه، وأبو زرعة الدمشقي، وأبو بكر الأثرم، وإبراهيم الحربي، ويحيى بن معين، وغيرهم كثير.

من مؤلفاته:
كتاب المسند، وهو أكبر دواوين السنة المطهرة، إذ يحوي أربعين ألفًا من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، انتقاها الإمام أحمد من بين سبعمائة وخمسين ألف حديث.
وله من الكتب أيضًا كتاب الأشربة، وكتاب الزهد، وكتاب فضائل الصحابة، وكتاب المسائل، وكتاب الصلاة وما يلزم فيها، وكتاب الناسخ والمنسوخ، وكتاب العلل، وكتاب السنن في الفقه.

منهجه العلمي:
اشتُهِرَ الإمام أحمد أنه محدِّث أكثر من أن يشتهر أنه فقيه، مع أنه كان إمامًا في كليهما. ومن شدة ورعه ما كان يأخذ من القياس إلا الواضح وعند الضرورة فقط، وكان لا يكتب إلا القرآن والحديث، من هنا عُرِفَ فقه الإمام أحمد بأنه الفقه بالمأثور؛ فكان لا يفتي في مسألة إلا إن وجد لها من أفتى بها من قبل، صحابيًّا كان أو تابعيًّا أو إمامًا. وإذا وجد للصحابة قولين أو أكثر، اختار واحدًا من هذه الأقوال، وقد لا يترجَّح عنده قول صحابي على الآخر، فيكون للإمام أحمد في هذه المسألة قولان.
وهكذا فقد تميز فقهه أنه في العبادات لا يخرج عن الأثر قيد شعرة، فليس من المعقول عنده أن يعبد أحدٌ ربه بالقياس أو بالرأي؛ إذ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صلوا كما رأيتموني أصلي "، وقال في الحج: "خذوا عني مناسككم".
وكان الإمام أحمد شديد الورع فيما يتعلق بالعبادات التي يعتبرها حق لله على عباده، وهذا الحق لا يجوز مطلقًا أن يتساهل أو يتهاون فيه. أما في المعاملات فيتميز فقهه بالسهولة والمرونة والصلاح لكل بيئة وعصر، فقد تمسَّك أحمد بنصوص الشرع التي غلب عليها التيسير لا التعسير. مثال ذلك: "الأصل في العقود عنده الإباحة ما لم يعارضها نص"، بينما عند بعض الأئمة الأصل في العقود الحظر ما لم يرد على إباحتها نص.
وكان شديد الورع في الفتاوى، وكان ينهى تلامذته أن يكتبوا عنه الأحاديث، فإذا رأى أحدًا يكتب عنه الفتاوى نهاه، وقال له: "لعلي أطلع فيما بعد على ما لم أطلع عليه من المعلوم فأغيِّر فتواي، فأين أجدك لأخبرك؟!".
ولما علم الله تعالى صدق نيته وقصده، قيَّض له تلامذة من بعده يكتبون فتاويه، وقد كتبوا عنه أكثر من ستين ألف مسألة. ولقد أخذ بمبدأ الاستصحاب، كما أخذ بالأحاديث المرسلة.

ما قيل عنه:
عن إبراهيم الحربي قال: "رأيت أحمد بن حنبل كأن الله قد جمع له علم الأولين والآخرين من كل صنف، يقول ما شاء ويمسك ما شاء".
وعن أحمد بن سنان قال: "ما رأيت يزيد بن هارون لأحد أشد تعظيمًا منه لأحمد بن حنبل، ولا رأيته أكرم أحدًا كرامته لأحمد بن حنبل، وكان يقعد إلى جنبه إذا حدثنا، وكان يوقره ولا يمازحه، ومرض أحمد فركب إليه فعاده".
وقال عبد الرزاق: "ما رأيت أفقه ولا أورع من أحمد بن حنبل".
وقال وكيع، وحفص بن غياث: "ما قدم الكوفة مثل أحمد بن حنبل".
وكان ابن مهدي يقول: "ما نظرت إليه إلا ذكرت به سفيان الثوري، ولقد كاد هذا الغلام أن يكون إمامًا في بطن أمه".

وفاته:
عن بنان بن أحمد القصباني أنه حضر جنازة أحمد بن حنبل فيمن حضر، قال: "فكانت الصفوف من الميدان إلى قنطرة باب القطيعة، وحُزِر (حَزَر الشيء: قدَّره بالتخمين) من حضرها من الرجال فكانوا ثمانمائة ألف، ومن النساء ستين ألفًا. رحم الله الإمام أحمد بن حنبل رحمةً واسعةً، وأسكنَه فسيح جناته.

المراجع:
- أحمد بن حنبل إمام أهل السنة، عبد الغني الدقر، ط دار القلم.
- تاريخ التشريع الإسلامي، الخضري.
- البداية والنهاية، الحافظ ابن كثير.
- الوافي بالوفيات، الصفدي.
- وفيات الأعيان، ابن خَلِّكان.
- الإمام أحمد بن حنبل، محمد أبو زهرة.

عن موقع قصة الإسلام

يتبع
 
الإمام الأوزاعي


نسبه وقبيلته:
هو أبو عمرو عبد الرحمن بن عمرو بن يُحْمَد الأَوْزَاعِيُّ. قال محمد بن سعد: "والأوزاع بطن من همدان". وقال البخاري في تاريخه: "الأوزاع: قرية بدمشق إذا خرجت من باب الفراديس". وقد وُلِد في بَعْلَبَكَّ سنةَ 88هـ/ 707م، ونشأ في البقاع، وسكن بيروت.

طفولته وتربيته:
قال ابن كثير: "نشأ - أي الأَوْزَاعِيَّ - بالبقاع يتيمًا في حجر أمه، وكانت تنتقل به من بلد إلى بلد، وتأدب بنفسه، فلم يكن في أبناء الملوك والخلفاء والوزراء والتجار وغيرهم أعقل منه، ولا أورع ولا أعلم، ولا أفصح ولا أوقر ولا أحلم، ولا أكثر صمتًا منه".

أهم ملامح شخصيته:
كثرة علمه وفقهه:
يُعَدُّ الإمِامُ الأَوْزَاعِيُّ أحد الفُقَهَاءِ الأعلام الذين أثَّرُوا في مَسِيرةِ الفِقْهِ الإِسْلاَمِيِّ، خَاصَّةً في بلادِ الشَّامِ والأَندلُسِ. قال الحافظ ابن كثير: "وقد بقي أهل دمشق وما حولها من البلاد على مذهبه نحوًا من مائتين وعشرين سنة".
ثم انتقل مذهبه إلى الأندلس وانتشر هناك فترة، ثم ضعف أمره في الشام أمام مذهب الإمام الشافعي، وضعف في الأندلس أيضًا أمام مذهب الإمام مالك الذي وجد أنصارًا وتلاميذ في الأندلس، بينما لم يجد مذهب الأَوْزَاعِيِّ الأنصار والتلاميذ.
وقد حجَّ مرةً فدخل مكة وسفيان الثوري آخذ بزمام جمله، ومالك بن أنس يسوق به، والثوري يقول: أفسحوا للشيخ. حتى أجلساه عند الكعبة، وجلسا بين يديه يأخذان عنه.

عبادته وورعه وزهده:
قال بشر بن المنذر: "كان الأَوْزَاعِيُّ كأنه أعمى من الخشوع".
وقال ابن مسهر: "كان يُحيي الليل صلاة وقرآنًا".
وقال الوليد بن مسلم: "ما رأيت أحدًا أشدَّ اجتهادًا من الأَوْزَاعِيِّ في العبادة".


لا يخشى في الله لومة لائمٍ:
لما سأله عبد الله بن علي - عم السفاح الذي أجلى بني أمية عن الشام، وأزال الله سبحانه دولتهم على يده - عن بني أمية قائلاً: يا أوزاعي، ما ترى فيما صنعنا من إزالة أيدي أولئك الظلمة عن العباد والبلاد؟ أجهادًا ورباطًا هو؟ فقال الأوزاعي: أيها الأمير، سمعت يحيى بن سعيد الأنصاري يقول، سمعت محمد بن إبراهيم التيمي يقول، سمعت علقمة بن وقاص يقول، سمعت عمر بن الخطاب يقول، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
"
إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها، فهجرته إلى ما هاجر إليه ".
فغضب عبد الله بن علي، ثم قال: يا أوزاعي، ما تقول في دماء بني أمية؟ فقال الأوزاعي: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيب الزاني، والتارك لدينه المفارق للجماعة ".
فاستشاط الأمير غيظًا، ثم قال: ما تقول في أموالهم؟ فقال الأوزاعي: إن كانت في أيديهم حرامًا فهي حرام عليك أيضًا، وإن كانت لهم حلالاً فلا تحل لك إلا بطريق شرعي. فأمره الأمير بالانصراف، ثم أمر له بعطيَّةٍ، فأخذها الأوزاعي ثم تصدق بها.

شيوخه:
روى عن عطاء بن أبي رباح، والقاسم بن مُخَيْمرة، ومحمد بن سيرين حكايةً، والزهري، ومحمد بن علي الباقر، وإسماعيل بن عبد الله بن أبي المهاجر، وقتادة، وعمرو بن شعيب، وربيعة بن يزيد، وشداد، وأبي عمار، وعبدة بن أبي لبابة، وبلال بن سعد، ومحمد بن إبراهيم التيمي، ويحيى بن أبي كثير، وعبد الله بن عامر اليحصبي، ومكحول، وأبي كثير السحيمي، وخلق كثير.

تلامذته:
روى عنه مالك، وشعبة، والثوري، وابن المبارك، وابن أبي الزناد، وعبد الرزاق، ومحمد بن حرب، وخلق كثير. وروى عنه من شيوخه: الزهري، ويحيى بن أبي كثير، وقتادة، وغيرهم.

مؤلفاته:
1- كتاب السنن في الفقه.
2- كتاب المسائل في الفقه.
3- كتاب السير.
4- كتاب المسند.
ثناء العلماء عليه:

قال عنه أبو نعيم في الحلية: "الإمام المبجل، والمقدام المفضل، عبد الرحمن بن عمرو أبو عمرو الأَوْزَاعِيُّ، رضي الله تعالى عنه، كان واحد زمانه، وإمام عصره وأوانه، كان ممن لا يخاف في الله لومة لائم، مقوالاً بالحق لا يخاف سطوة العظائم".
وقال عنه الحافظ ابن كثير: "الإمام الجليل، علامة الوقت... فقيه أهل الشام وإمامهم".
وقال عنه الإمام مالك: "كان الأَوْزَاعِيُّ إمامًا يُقتدى به".
وقال سفيان بن عيينة وغيره: "كان الأَوْزَاعِيُّ إمام أهل زمانه".
وقال محمد بن عجلان: "لم أر أحدًا أنصح للمسلمين من الأَوْزَاعِيِّ".
وقال يحيى بن معين: "العلماء أربعة: الثوري، وأبو حنيفة، ومالك، والأَوْزَاعِيُّ".

من كلماته الخالدة:
- اصبر على السنة، وقف حيث يقف القوم، وقل ما قالوا، وكف عما كفوا، وليسعك ما وسعهم.
- العلم ما جاء عن أصحاب محمد، وما لم يجئ عنهم فليس بعلم.
- لا يجتمع حب علي وعثمان إلا في قلب مؤمن.
- إذا أراد الله بقوم شرًّا فتح عليهم باب الجدل، وسدَّ عنهم باب العلم والعمل.
- العافية عشرة أجزاء، تسعة منها صمت ، وجزء منها الهرب من الناس.

وفاته:
توفي ببيروت يوم الأحد 28 من صفر سنة 157 هـ/ 16 يناير 774 م، وهو دون السبعين بسنة واحدة. رحمه الله، وأسكنه فسيح جناته.

المراجع:
- البداية والنهاية، ابن كثير.
- الفهرست، ابن النديم.
- حلية الأولياء، أبو نعيم.
- وفيات الأعيان، ابن خلّكان.
- العبر في خبر من غبر، الذهبي.

عن موقع قصة الإسلام

يتبع
 
الإمام الحسن البصري


نسبه وقبيلته:
هو أبو سعيد الحسن بن يسار البصري، كان أبوه من أهل ميسان، وأمُّه (خيرة) مولاة أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم. وقد وُلِد بالمدينة المنورة سنةَ 21 هـ/ 642 م، وعاش في البصرة.

طفولته وتربيته:
نشأ الحسن البصري وتربَّى في بيت أم سلمة زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ إذ كانت أمُّه (خيرة) مولاة أم سلمة. وكان للبيئة الحسنة التي نشأ فيها الحسن البصري (رحمه الله) أكبر الأثر في تكوين شخصيته العظيمة وتكاملها، فقد نشأ (رحمه الله) بين الصحابة والتابعين، وتربى على أيديهم، ونهل من علمهم، وصَفَت نفسه برؤيتهم ومجالستهم والسماع منهم.

أهم ملامح شخصيته:
كثرة علمة وسعة اطِّلاعه وفقهه:
من أهم ما يميّز الحسن البصري (رحمه الله) كثرة علمة وسعة اطلاعه وفقهه؛ وقد ألّف ابن مُفَرِّج (315- 380هـ/ 927- 990م) كتابًا سمّاه (فقه الحسن البصري) ويقع في سبع مجلدات.
وفي العصر الحديث ألّف الأستاذ محمد روّاس قلعه جي (موسوعة فقه الحسن البصري)، وتقع في جزأين.

فصاحته وحسن بيانه:
قال أبو عمرو بن العلاء: ما رأيت أفصح من الحسن البصري، ومن الحَجَّاج بن يوسف الثقفي. فقيل له: فأيُّهما كان أفصح؟ قال: الحسن.

زهده وخوفه:
مع كون الحسن البصري جيد الملبس والمطعم، لكنه كان زاهدًا، كان يصوم أيام البيض، والاثنين والخميس، والأشهر الحرم. وحكى ابن شوذب عن مطر قال: "دخلنا على الحسن نعوده، فما كان في البيت شيء - لا فراش ولا بساط، ولا وسادة ولا حصير - إلا سريرًا مرمولاً هو عليه، حَشْوُهُ الرَّمْل". والسرير المرمول: الذي نسج وجهه بالسَّعَف، ولم يكن على السرير وطاء سوى الحصير، فيسمى مرمولاً.
وقال حمزة الأعمى: ذهبت بي أمي إلى الحسن، فقالت: يا أبا سعيد، ابني هذا قد أحببت أن يلزمك، فلعل الله أن ينفعه بك. قال: فكنتُ أختلف إليه، فقال لي يومًا: "يا بُنيَّ، أدِمَ الحزن على خير الآخرة؛ لعله أن يوصلك إليه، وابكِ في ساعات الليل والنهار في الخلوة؛ لعل مولاك أن يطَّلع عليك فيرحم عبرتك، فتكون من الفائزين".
قال إبراهيم اليشكري: "ما رأيت أحدًا أطول حزنًا من الحسن، ما رأيته إلا حسبته حديث عهدٍ بمصيبة"، أي كأنه قبل قليل جرت عليه مصيبة. وقال يزيد بن حوشب: "ما رأيت أحزن من الحسن وعمر بن عبد العزيز، كأن النار لم تخلق إلا لهما".

شيوخه:
سمع من عثمان (رضي الله عنه) وهو يخطب، وشهد يوم الدار، ورأى طلحة وعليًّا، وروى عن عمران بن حصين، والمغيرة بن شعبة، وعبد الرحمن بن سمرة، وأبي بكرة، والنعمان بن بشير، وجندب بن عبد الله، وسمرة بن جندب، وابن عباس، وابن عمر، وعمرو بن ثعلب، وعبد الله بن عمرو، ومعقل بن يسار، وأبي هريرة، والأسود بن سريع، وأنس بن مالك، وخلق كثير من الصحابة وكبار التابعين؛ كالأحنف بن قيس، وحطان الرقاشي، وقرأ عليه القرآن.

مؤلفاته:
له كتاب في فضائل مكة.

ثناء العلماء عليه:
قال عنه ابن خلّكان: "كان من سادات التابعين وكبرائهم، وجمع كل فن من علم وزهد وورع وعبادة". وقال محمد بن سعد: "كان الحسن رحمه الله جامعًا، عالمًا، رفيعًا، فقيهًا، ثقةً، حجةً، مأمونًا، عابدًا، ناسكًا، كثيرَ العلم، فصيحًا، جميلاً، وسيمًا". وقال الذهبي: "كان رجلاً تامَّ الشكل، مليحَ الصورة، بهيًّا، وكان من الشجعان الموصوفين".
وقال عنه الإمام الغزالي: "ولقد كان الحسن البصري رحمه الله أشبه الناس كلامًا بكلام الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وأقربهم هديًا من الصحابة (رضي الله عنهم)، اتفقت الكلمة في حقه على ذلك، وكان أكثر كلامه في خواطر القلوب، وفساد الأعمال، ووساس النفوس، والصفات الخفية الغامضة من شهوات النفس".

من كلمات الحسن البصري الخالدة: قال الحسن رحمه الله:
"إن المؤمن يصبح حزينًا ويمسي حزينًا ولا يسعه غير ذلك؛ لأنه بين مخافتين: بين ذنبٍ قد مضى لا يدري ما الله يصنع فيه، وبين أجلٍ قد بقي لا يدري ما يصيب فيه من المهالك".
وقال أيضًا: "ابن آدم، إنما أنت أيام كلما ذهب يومٌ ذهب بعضك، ويوشك إذا ذهب البعض أن يذهب الكل، وأنت تعلم فاعملْ".

وفاته:
بعد عمرٍ امتدَّ ما يقرب من تسعين سنة رحل الحسن البصري إلى الله تعالى، فقد تُوفِّي بالبصرة سنة 110هـ/ 728م، وغسَّله أيوب وحميد، وأخرج حين انصرف الناس وازدحموا عليه، حتى فاتت الناس صلاة العصر؛ لم تصلَّ في جامع البصرة. رحمه الله، وأسكنه فسيح جناته.

المراجع:
- الأعلام، الزركلي.
- وفيات الأعيان، ابن خلّكان.
- الوافي بالوفيات، الصفدي.
- إحياء علوم الدين، الغزالي.
- حلية الأولياء، أبو نعيم.

عن موقع قصة الإسلام

يتبع
 
الإمام الليث بن سعد


نسبه وقبيلته:
هو أبو الحارث الليث بن سعد بن عبد الرحمن، إمام أهل مصر في الفقه والحديث، وكان ثقةً سريًّا سخيًّا. وقد وُلِد في قَلْقَشَنْدَة - وهي إحدى قرى محافظة القليوبية بمصر - سنةَ 94 هـ/ 713 م.

طفولته وتربيته:
نشأ الليث بن سعد طالبًا للعلم، حريصًا على أن يتلقاه من الشيوخ والعلماء؛ فطاف البلاد كثيرًا لأجل هذا الأمر.

أهم ملامح شخصيته
فقهه وعلمه:
لقد شهد الكثير من كبار العلماء والفقهاء للإمام الليث بن سعد (رحمه الله) بنبوغه وكثرة علمه وفقهه؛
فقال الشافعي (رحمه الله): "الليث بن سعد أفقه من مالك، إلا أن أصحابه لم يقوموا به".
وقال الفضل بن زياد: "قال أحمد: ليث كثير العلم، صحيح الحديث".

كرمه وسخاؤه:
من أبرز الصفات التي تظهر لنا في هذه الشخصية العظيمة صفة الكرم والسخاء، فمع كثرة علمه وفقهه وورعه كان الليث بن سعد (رحمه الله) كريمًا معطاءً، حتى عُرف بهذه الصفة وصارت من سجاياه التي لا تنفك عنه بحال من الأحوال.
قال الصفدي: "وكان - أي الليث - من الكرماء الأجواد. ويقال: إن دخله كان كل سنة خمسة آلاف دينار، وكان يفرقها في الصلات وغيرها".
وقال منصور بن عمار: "أتيت الليث فأعطاني ألف دينار، وقال: صن بهذه الحكمة التي آتاك الله تعالى".
وجاءت امرأة إلى الليث فقالت: يا أبا الحارث، إن ابنًا لي عليلٌ، واشتهى عسلاً. فقال: "يا غلام، أعطها مِرْطًا من عسل". والمرط: عشرون ومائة رطل.

شيوخه:
أسند الليث عن خلق كثير من التابعين كعطاء، ونافع، وأبي الزبير، والزهري. وقيل: إنه أدرك نيِّفًا وخمسين تابعيًّا.

تلاميذه:
روى عنه خلق كثير، منهم ابن عجلان شيخه، وابن لهيعة، وهشيم، وابن وهب، وابن المبارك، وعطاف بن خالد، وأشهب، والقعنبي، وحجين بن المثنى، وسعيد بن أبي مريم، وآدم بن أبي إياس، وأحمد بن يونس، وشعيب بن الليث ولده، ويحيى بن بكير، وعبد الله بن عبد الحكم، ومنصور بن سلمة، ويونس بن محمد، وأبو النضر هاشم بن القاسم، ويحيى بن يحيى الليثي، وعمرو بن خالد، وعبد الله بن يوسف التنيسي.

بعض مؤلفاته:
كتاب التاريخ، وكتاب المسائل في الفقه.

ما قيل عنه:
قال أبو حاتم: "هو أحب إليَّ من مُفَضَّل بن فَضالة".
وقال أبو داود: "حدثني محمد بن الحسين، سمعت أحمد يقول: الليث ثقة، ولكن في أخذه سهولة".
وقال سعيد الآدم: "قال العلاء بن كثير: الليث بن سعد سيدنا وإمامنا وعالمنا".
وقال ابن سعد: "كان الليث قد استقل بالفتوى في زمانه".
وقال ابن تغري بردي: "كان كبير الديار المصرية ورئيسها وأمير من بها في عصره، بحيث أن القاضي والنائب من تحت أمره ومشورته".

وفاته:
كانت وفاته (رحمه الله) يوم الجمعة 15 من شهر شعبان 175 هـ/ 16 من ديسمبر 791 م. قال خالد بن عبد السلام الصدفي: "شهدت جنازة الليث بن سعد مع والدي، فما رأيت جنازة قَطُّ أعظم منها، رأيت الناس كلهم عليهم الحزن، وهم يعزِّي بعضهم بعضًا، ويبكون؛ فقلت: يا أبتِ، كأنَّ كل واحد من الناس صاحب هذه الجنازة. فقال: يا بُنيَّ، لا ترى مثله أبدًا".

المراجع:
- صفة الصفوة، ابن الجوزي.
- سير أعلام النبلاء، الذهبي.
- وفيات الأعيان، ابن خَلِّكَان.
- الوافي بالوفيات، الصفدي.
- الأعلام، الزركلي.
- هدية العارفين، الباباني.

عن موقع قصة الإسلام

يتبع
 
الإمام الشعبي


نسبه وقبيلته:
هو عامر بن شَراحيل بن عبد بن ذي كِبَار (وذو كبار: قَيْلٌ من أقيال اليمن) الإمام، علاَّمة العصر، أبو عمرو الهمداني ثم الشَّعْبِيُّ. ويقال: هو عامر بن عبد الله، وكانت أمُّه من سبي جلولاء.

مولده:
وُلِد بالكوفة سنةَ 16هـ/ 637م، وقيل: سنة عشرين للهجرة. وقيل: إحدى وثلاثين. وقال خليفة بن خياط: وُلد الشَّعْبِيُّ والحسن البصري في سنة إحدى وعشرين. وقال الأصمعي: في سنة سبع عشرة. وكان يسكن الكوفة، ولكنه تنقل بين الأقطار لطلب العلم.

أهم ملامح شخصيته:
سعة علمه وفقهه:
قال ابن شبرمة: سمعته - أي الشَّعْبِيَّ - يقول: "ما كتبت سوداء في بيضاء إلى يومي هذا، ولا حدثني رجل بحديث قَطُّ إلا حفظته، ولا أحببتُ أن يعيده عليَّ". وعن عاصم بن سليمان، قال: "ما رأيت أحدًا كان أعلم بحديث أهل الكوفة والبصرة والحجاز والآفاق من الشعبي".

شيوخه:
أدرك الشعبي أكابر الصحابة وأعلامهم رضي الله تعالى عنهم، ومنهم: علي بن أبي طالب، وسعد بن أبي وقاص، وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل، وابن عباس، وابن عمر، وأسامة بن زيد، وعمرو بن العاص، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وجرير بن عبد الله البجلي، وجابر بن سمرة، وعدي بن حاتم، وعروة بن مضرس، وجابر بن عبد الله، والنعمان بن بشير، والبراء بن عازب، وعقبة بن عمرو، وزيد بن أرقم، وأبو سعيد الخدري، وكعب بن عجرة، وأنس بن مالك، والمغيرة بن شعبة، وعمران بن حصين، وعبد الرحمن بن سمرة، وخلقٌ كثير.
ومن النساء: عائشة، وأم سلمة، وميمونة، أمهات المؤمنين، وأم هانئ، وأسماء بنت عميس، وفاطمة بنت قيس. قال الشَّعْبِيُّ: "أدركت خمسمائة من الصحابة أو أكثر".
ورَوَى عن مسروق، وعلقمة، والأسود، وأبي سلمة بن عبد الرحمن، ويحيى بن طلحة، وعمر بن علي بن أبي طالب، وسالم بن عبد الله بن مسعود، وأبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود، وأبي بردة بن أبي موسى.

تلامذته:
روى عنه الحكمُ، وحماد، وأبو إسحاق، وداود بن أبي هند، وابن عون، وإسماعيل بن أبي خالد، وعاصم الأحول، ومكحول الشامي، ومنصور بن عبدالرحمن الغداني، وعطاء بن السائب، ومغيرة بن مقسم، ومحمد بن سوقة، ومجالد، ويونس بن أبي إسحاق، وابن أبي ليلى، وأبو حنيفة، وعيسى بن أبي عيسى الحناط، وعبد الله بن عياش المَنْتُوف، وأبو بكر الهذلي، وأممٌ سواهم.

مؤلفاته:
صنَّف الكفاية في العبادة والطاعة. قاله صاحب (هدية العارفين).

ثناء العلماء عليه:
قال عنه ابن حجر: "ثقة، مشهور، فقيه فاضل".
وقال مكحول: "ما رأيت أفقه منه".
وقال الزهري: "العلماء أربعة: ابن المسيب بالمدينة، والشَّعْبِيُّ بالكوفة، والحسن البصري بالبصرة، ومكحول بالشام".
وقال عنه أبو نعيم في الحلية: "الفقيه القوي، سالك السمت المرضي، بالعلم الواضح المضي، والحال الزاكي الوضي... كان بالأوامر مكتفيًا، وعن الزواجر منتهيًا، تاركًا لتكلف الأثقال، معتنقًا لتحمل الواجب من الأفعال".

مواقف من حياته:
قال رجل للشعبي كلامًا أقذع فيه، فقال له: "إن كنت صادقًا غفر الله لي، وإن كنت كاذبًا غفر الله لك".
وكلَّم الشَّعْبِيُّ عُمَرَ بن هبيرة الفزاري أمير العراقين في قوم حبسهم ليطلقهم فأَبَى، فقال له: "أيها الأمير، إن حبستهم بالباطل فالحق يخرجهم، وإن حبستهم بالحق فالعفو يسعهم"، فأطلقهم.

من كلماته الخالدة
- ما ترك أحدٌ في الدنيا شيئًا لله إلا أعطاه الله في الآخرة ما هو خير له.
- ما اختلفت أُمَّة بعد نبيِّها إلا ظهر أهلُ باطلها على أهل حقِّها.
- لو أن رجلاً سافر من أقصى الشام إلى أقصى اليمن، فحفظ كلمة تنفعه فيما يستقبل من عمره، رأيت أن سفره لم يَضِعْ.
- من زوَّج كريمته من فاسق، فقد قطع رحمها.

وفاته:
عاش الشَّعْبِيُّ 87 سنة، وكانت وفاته فجأة بالكوفة، وذلك سنة 103 هـ/ 721 م. وقيل: سنة 104 هـ. وقيل: سنة 106 هـ.
ولمَّا علم الحسن البصري بوفاة الشَّعْبِيِّ قال: "إنا لله وإنا إليه راجعون، إن كان لقديم السن، كثير العلم، وإنه لمن الإسلام بمكان".

رحمه الله رحمة واسعة، وأسكنه فسيح جناته.

المراجع:
- سير أعلام النبلاء، الذهبي.
- حلية الأولياء، أبو نعيم.
- الوافي بالوفيات، الصفدي.
- وفيات الأعيان، ابن خلّكان.

عن موقع قصة الإسلام

يتبع
 
الإمام ابن حزم


نسبه وقبيلته:
هُوَ أَبُو مُحَمَّدٍ عَلِيُّ بنُ أَحْمَدَ بنِ سَعِيْدِ بنِ حَزْمِ الفَارِسِيُّ الأَصْل، ثُمَّ الأَنْدَلُسِيُّ القُرْطُبِيُّ، الفَقِيْهُ، الحَافِظُ، المُتَكَلِّمُ، الأَدِيْبُ، الوَزِيْرُ، الظَّاهِرِيُّ، صَاحِبُ التَّصَانِيْفِ. وُلِد أَبُو مُحَمَّدٍ بقرطبة سَنَةَ 384هـ/ 994م، وعاش في الأندلس.

طفولته وتربيته:
نشَأَ الإمام ابن حزم فِي تَنَعُّمٍ وَرفَاهيَّة، وَرُزِقَ ذَكاءً مُفرطًا، وَكَانَ وَالِدُهُ مِنْ كُبَرَاء أَهْل قُرْطُبَة. ويشير الكثيرون ممن ترجم للشيخ (رحمه الله)، أو درس تاريخه ونشأته أن الشيخ نشأ بين مجموعة من النساء، ومن ثَمَّ كان له من الصفات كذا وكذا. والواقع أن الشيخ (رحمه الله) قد هيَّأ له الله نساءً فُضْلَياتٍ قُمْنَ على تربيته وتعليمه، ونلحظ ذلك من كونه حفظ القرآن على أيديهن، إضافةً إلى ذلك كان والد الشيخ من العلماء الكبار المشهود لهم بالخير وسعة العلم وحسن الخُلُق.

أهم ملامح شخصيته:
موسوعي في علمه:
كان ابن حزم رحمه الله مفسرًا، محدثًا، فقيهًا، مؤرخًا، شاعرًا، مربيًا، عالمًا بالأديان والمذاهب. ويزداد هذا الأمر وضوحًا باطِّلاعنا على هذا الكمِّ الهائل من مؤلفاته في شتى الميادين العلمية.

كريم الأخلاق والشمائل:
ذكر الشيخ محمد أبو زهرة (رحمه الله) أن الإمام ابن حزم كان يتصف بالصفات التالية:
1- قوة الحافظة.
2- البديهة الحاضرة.
3- عمق التفكير والغوص في الحقائق.
4- الصبر.
5- الجَلَد.
6- المثابرة.
7- الإخلاص.
8- الصراحة في الحق.
9- الوفاء.
10- الاعتزاز بالنفس من غير عُجْبٍ ولا خُيَلاء.
11- ووصف ابن حزم أيضًا بالحِدَّة (رحمه الله تعالى).

شيوخه:
سَمِعَ فِي سَنَةِ أَرْبَع مائَة وَبعدهَا مِنْ طَائِفَةٍ، مِنْهُم: يَحْيَى بن مَسْعُوْدِ بنِ وَجه الجَنَّة، صَاحِب قَاسِم بن أَصْبَغ، فَهُوَ أَعْلَى شَيْخٍ عِنْدَهُ، وَمِنْ أَبِي عُمَرَ أَحْمَد بن مُحَمَّدِ بنِ الجَسور، وَيُوْنُس بن عَبْدِ اللهِ بنِ مُغِيْث القَاضِي، وَحُمَامِ بن أَحْمَدَ القَاضِي، وَمُحَمَّدِ بن سَعِيْدِ بنِ نبَات، وَعَبْدِ اللهِ بن رَبِيْع التَّمِيْمِيّ، وَعبد الرَّحْمَن بن عَبْدِ اللهِ بنِ خَالِدٍ، وَعَبْدِ اللهِ بن مُحَمَّدِ بنِ عُثْمَانَ، وَأَبِي عُمَرَ أَحْمَد بن مُحَمَّدٍ الطَّلَمَنْكِي، وَعَبْدِ اللهِ بن يُوْسُفَ بنِ نَامِي، وَأَحْمَد بن قَاسِم بن مُحَمَّدِ بنِ قَاسِم بن أَصْبَغ.

تلاميذه:
حَدَّثَ عَنْهُ: ابْنُهُ أَبُو رَافِعٍ الفَضْل، وَأَبُو عَبْدِ اللهِ الحُمَيْدِيُّ، وَوَالِد القَاضِي أَبِي بَكْرٍ بنِ العَرَبِيِّ، وَطَائِفَةٌ.

مؤلفاته:
لابن حزم مؤلفات جليلة كثيرة، منها:
1- (الإِيصَال إلى فَهم كِتَاب الخِصَال) ويقع في خَمْسَةَ عَشَرَ أَلف وَرقَة.
2- (الخِصَال الحَافِظ لجمل شرَائِع الإِسْلاَم) مُجَلَّدَان.
3- (المُجَلَّى فِي الفِقْه) مُجَلَّد.
4- (المُحَلَّى فِي شرح المُجَلَّى بِالحجج وَالآثَار) ويقع في ثَمَانِي مُجَلَّدَات.
5- (حَجَّة الوَدَاعِ) مِائَة وَعِشْرُوْنَ وَرقَة.
6- (التَّلخيص وَالتَّخليص فِي المَسَائِل النَّظرِيَّة).
7- (الإِملاَء فِي شرح المُوَطَّأ) أَلف وَرقَة.
8- (الإِملاَء فِي قوَاعد الفِقْه) أَلف وَرقَة أَيْضًا.
9- (الإِحكَام لأُصُوْل الأَحكَام) مُجَلَّدَان.
10- (الفِصَل فِي الملل وَالنِّحل) مُجَلَّدَان كَبِيْرَان.
11- (مُخْتَصَر فِي علل الحَدِيْث) مُجَلَّد.
12- (رِسَالَة فِي الطِّبِّ النّبوِيِّ).

منهجه في البحث:
بدأ ابن حزم طلبه للعلم باستحفاظ القرآن الكريم، ثم رواية الحديث، وعلم اللسان، فبلغ في كل ذلك مرتبة عالية، ثم اتجه من بعد ذلك إلى الفقه، فدرسه على مذهب الإمام مالك؛ لأنه مذهب أهل الأندلس في ذلك الوقت، ولكنه كان مع دراسته للمذهب المالكي يتطلع إلى أن يكون حرًّا، يتخير من المذاهب الفقهية ولا يتقيد بمذهبٍ؛ ولذلك انتقل من المذهب المالكي إلى المذهب الشافعي، فأعجبه تمسُّكه بالنصوص، واعتباره الفقه نصًّا أو حملاً على النص، وشدة حملته على من أفتى بالاستحسان.
ولكنه لم يلبث إلا قليلاً في الالتزام بالمذهب الشافعي، فتركه لما وجد أن الأدلة التي ساقها الشافعي لبطلان الاستحسان تصلح لإبطال القياس، وكل وجوه الرأي أيضًا. ثم بدا له أن يكون له منهجٌ خاصٌّ وفقه مستقل، فاتجه إلى الأخذ بالظاهر، وشدَّد في ذلك، حتى إنه كان أشدَّ من إمام المذهب الأول داود الأصفهاني.

ثناء العلماء عليه:
قال الأمير أبو نصر بن ماكولا: "كان فاضلاً في الفقه، حافظًا في الحديث، مصنِّفًا فيه، وله اختيار في الفقه على طريقة الحديث، روى عن جماعة من الأندلسيين كثيرة، وله شعر ورسائل".
وقال الحافظ الذهبي: "ابن حزم الأوحد البحر، ذو الفنون والمعارف...".
وقال الحميدي: "كان حافظًا، عالمًا بعلوم الحديث وفقهه، مستنبطًا للأحكام من الكتاب والسنة، متفننًا في علوم جمَّة، عاملاً بعلمه، زاهدًا في الدنيا بعد الرياسة التي كانت له ولأبيه من قبله من الوزارة وتدبير الممالك، متواضعًا ذا فضائل جمَّة، وتواليف كثيرة في كل ما تحقق به في العلوم، وجمع من الكتب في علم الحديث والمصنفات والمستندات شيئًَا كثيرًا، وسمع سماعًا جمًّا".

وفاته:
تُوفِّي سنةَ 456هـ/ 1064م، عن إحدى وسبعين سنة. رحمه الله رحمة واسعة، وأسكنه فسيح جناته.

المراجع:
- سير أعلام النبلاء، الذهبي.
- الإمام ابن حزم الظاهري إمام أهل الأندلس، محمد عبد الله أبو صعيليك.
- نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب، المقرّي.

عن موقع قصة الإسلام

يتبع
 
الإمام العز بن عبد السلام


نسبه وقبيلته:
هو عبد العزيز بن عبد السلام بن أبي القاسم بن الحسن، شيخ الإسلام وبقية الأعلام، الشيخ عز الدين أبو محمد الدمشقيُّ الشافعيُّ. وُلِد بدمشق سنة 577 هـ/ 1181 م، ونشأ فيها.

طفولته وتربيته:
نشأ العزُّ بن عبد السلام في أسرة فقيرة، وكان هذا من الأسباب التي جعلته يطلب العلم بعد أن أصبح كبيرًا، وقد أتاح له ذلك - مع اجتهاده في طلب العلم وصبره عليه - أن يتفقه كثيرًا، وأن يعي ما يحصّله من علم أكثر من غيره.

أهم ملامح شخصيته:
فقهه وعلمه:
من أهم ملامح شخصية الشيخ (رحمه الله) علمه وفقهه، فقد تميّز الشيخ وبرع في هذه الناحية كثيرًا حتى لقبّه تلميذه الأول ابنُ دقيق العيد بسلطان العلماء. ومما يشهد بسعة علم الشيخ ما تركه للأمة من مؤلفات كثيرة عظيمة القيمة، عميقة الدقة في مادتها، والتي ما زال الكثير منها مخطوطًا ولم يطبع بعدُ.

هيبته وجرأته في الحق:
هذا الجانب أيضًا مما تميّز به الشيخ وبلغ فيه مبلغًا عظيمًا حتى اشتهر به، فلا يُذكر العز بن عبد السلام إلا وتُذكر الهيبة التي يهبها الله للعاملين المخلصين من عباده، لا يُذكر العز (رحمه الله) إلا وتُذكر معه الجرأة على كل مخالف لشرع الله، مهما علا مكانه، وارتفعت بين الناس مكانته.
ونظرة في أي مرحلة من حياة الشيخ نجد هذا الأمر ملازمًا له لا ينفك عنه بحالٍ من الأحوال، وله مواقف خالدة كثيرة في ذلك، منها:

حينما تولى (الصالح إسماعيل الأيوبي) أمر دمشق - وهو أخو الصالح أيوب الذي كان حاكمًا لمصر - فتحالف مع الصليبيين لحرب أخيه نجم الدين أيوب في مصر، وكان من شروط تحالفه مع الصليبيين أن يُعطي لهم مدينتي صيدا والشقيف، وأن يسمح لهم بشراء السلاح من دمشق، وأن يخرج معهم في جيش واحد لغزو مصر. وبالطبع ثار العالم الجليل العز بن عبد السلام، ووقف يخطب على المنابر ينكر ذلك بشدة على الصالح إسماعيل، ويعلن في صراحة ووضوح أن الصالح إسماعيل لا يملك المدن الإسلامية ملكًا شخصيًّا حتى يتنازل عنها للصليبيين، كما أنه لا يجوز بيع السلاح للصليبيين، وخاصةً أن المسلمين على يقين أن الصليبيين ما يشترون السلاح إلا لضرب إخوانهم المسلمين. وهكذا قال سلطان العلماء كلمة الحق عند السلطان الجائر الصالح إسماعيل، فما كان من الصالح إسماعيل إلا أن عزله عن منصبه في القضاء، ومنعه من الخطابة، ثم أمر باعتقاله وحبسه.

ومن مواقفه الشهيرة أيضًا والتي اصطدم فيها مع الصالح أيوب نفسه، أنه لما عاش في مصر اكتشف أن الولايات العامة والإمارة والمناصب الكبرى كلها للمماليك الذين اشتراهم نجم الدين أيوب قبل ذلك؛ ولذلك فهم في حكم الرقيق والعبيد، ولا يجوز لهم الولاية على الأحرار؛ فأصدر مباشرة فتواه بعدم جواز ولايتهم لأنهم من العبيد. واشتعلت مصر بغضب الأمراء الذين يتحكمون في كل المناصب الرفيعة، حتى كان نائب السلطان مباشرة من المماليك، وجاءوا إلى الشيخ العز بن عبد السلام، وحاولوا إقناعه بالتخلي عن هذه الفتوى، ثم حاولوا تهديده، ولكنه رفض كل هذا - مع أنه قد جاء مصر بعد اضطهادٍ شديد في دمشق - وأصرَّ على كلمة الحق.
فرُفع الأمر إلى الصالح أيوب، فاستغرب من كلام الشيخ ورفضه. فهنا وجد الشيخ العز بن عبد السلام أن كلامه لا يُسمع، فخلع نفسه من منصبه في القضاء، فهو لا يرضى أن يكون صورة مفتي، وهو يعلم أن الله عز وجل سائله. وركب الشيخ العز بن عبد السلام حماره ليرحل من مصر، وخرج خلف الشيخ العالم الآلافُ من علماء مصر ومن صالحيها وتجارها ورجالها، بل خرج النساء والصبيان خلف الشيخ تأييدًا له، وإنكارًا على مخالفيه. ووصلت الأخبار إلى الملك الصالح نجم الدين أيوب، فأسرع بنفسه خلف الشيخ العز بن عبد السلام واسترضاه، فقال له العزُّ: إن أردت أن يتولى هؤلاء الأمراء مناصبهم فلا بد أن يباعوا أولاً، ثم يعتقهم الذي يشتريهم، ولما كان ثمن هؤلاء الأمراء قد دفع قبل ذلك من بيت مال المسلمين، فلا بد أن يرد الثمن إلى بيت مال المسلمين. ووافق الملك الصالح أيوب، ومن يومها والشيخ العز بن عبد السلام يُعرف بـ(بائع الأمراء).

وقد وُصف الشيخ (رحمه الله) أيضًا بالزهد والورع الشديدين، كما وُصف بالبذل والسخاء والكرم والعطاء، والعطف على المحتاجين، مما يجعل من شخصيته (رحمه الله) نموذجًا رائعًا يُقتدى به في كل ميادين الحياة المختلفة.

شيوخه:
حضر أبا الحسين أحمد بن الموازيني، والخشوعي، وسمع عبد اللطيف بن إسماعيل الصوفي، والقاسم بن عساكر، وابن طبرزد، وحنبل المكبر، وابن الحرستاني، وغيرهم. وخرَّج له الدمياطي أربعين حديثًا عوالي. وتفقه على الإمام فخر الدين ابن عساكر.

تلاميذه:
روى عنه الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد، والدمياطي، وأبو الحسين اليونيني، وغيرهم.

مؤلفاته:
للعز بن عبد السلام (رحمه الله) مؤلفات كثيرة، منها ما هو مطبوع ومنها ما هو مخطوط، فله كتاب الإلمام في أدلة الأحكام، وترغيب أهل الإسلام في سكنى الشام، وله كتاب في التفسير، وكتاب شجرة المعارف، وله كتاب في العقيدة سمّاه عقائد الشيخ عز الدين، وشرحه الإمام ولي الدين محمد بن أحمد الديباجي، وله كتاب الفتاوى الموصلية، وله كتاب القواعد الكبرى في فروع الشافعية، قال عنه صاحب كشف الظنون: "وليس لأحدٍ مثله". وكتاب كشف الأسرار عن حكم الطيور والأزهار، وله كتاب الغاية في اختصار النهاية.

وقد شملت مؤلفات الشيخ التفسير وعلوم القرآن، والحديث والسيرة النبوية، وعلم التوحيد، والفقه وأصوله، والفتوى.

منهجه في البحث:
يدعو إلى إعمال العقل في استنباط الأحكام، وفي التعرف على المصالح. ويرى أن الأحكام إن لم يمكن استنباطها من الكتاب أو السنة أو الإجماع أو القياس، فيجب استنباطها بما يحقق مصلحة ويدرأ مفسدة، والعقل هو أداة هذا الاستنباط.

ثناء العلماء عليه:
قال عنه الذهبي: "بلغ رتبة الاجتهاد، وانتهت إليه رئاسة المذهب، مع الزهد والورع، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والصلابة في الدين، وقصده الطلبة من الآفاق، وتخرّج به أئمة".
وقال عنه ابن دقيق العيد: "كان ابن عبد السلام أحد سلاطين العلماء".
وقال عنه ابن الحاجب: "ابن عبد السلام أفقه من الغزالي".
وقال عنه ابن السبكي: "شيخ الإسلام والمسلمين، وأحد الأئمة الأعلام، سلطان العلماء، إمام عصره بلا مدافعة، القائم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في زمانه، المطلع على حقائق الشريعة وغوامضها، العارف بمقاصدها".

وفاته:
تُوفِّي العز بن عبد السلام (رحمه الله) سنةَ 660هـ/ 1261م، عن ثلاثٍ وثمانين سنة.

المراجع:
- العز بن عبد السلام، د. محمد الزحيلي.
- كشف الظنون، حاجي خليفة.
- قصة التتار من البداية إلى عين جالوت، د. راغب السرجاني.
- أئمة الفقه التسعة، عبد الرحمن الشرقاوي.

عن موقع قصة الإسلام


يتبع
 
ابن دقيق العيد

سيد يوسف



روى أبو داود عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها " (صحيح أبو داود 4291) . وقد دفعت قراءات الأستاذ عبد المتعال الصعيدى إلى القول بأن ابن دقيق العيد على رأس المجددين فى القرن السابع الهجري ، فمن يا ترى يكون ابن دقيق العيد ؟ ما شأنه ؟

قبس من نشأته:
حين علم الشيخ مجد الدين القشيري أن زوجته قد وضعت غلاماً، رفع يده إلى السماء شاكراً حامداً نعمة الله عليه . ولما قدم مكة حمل رضيعه وطاف به البيت وهو يدعو الله سائلاً أن يجعله عالماً، وقد استجاب الله لدعائه، ووصل الفتى بجدّه وذكائه ومثابرته في الدرس وتحصيل العلوم إلى مرتبة قاضي قضاة المسلمين في العصر المملوكي.

اسمه ولقبه:
يسمى ابن دقيق العيد بمحمد بن عبد الله بن وهب، إلا أن اللقب الذي غلب عليه هو ابن دقيق العيد، وهو لقب جده الأعلى الذي كان ذا صيت بعيد، ومكانة مرموقة بين أهل الصعيد، وقد لقب كذلك لأن هذا الجد كان يضع على رأسه يوم العيد طيلساناً أبيضاً شديد البياض، فشبهه العامة من أبناء الصعيد لبياضه الشديد هذا بدقيق العيد .نشأ ابن دقيق العيد في مدينة قوص تحت رعاية والده مجد الدين القشيري الذي تخرج على يديه الآلاف من أبناء الصعيد، وقد عاش شبابه تقياً نقياً ورعاً.

رحلة العلم:
يقول الأستاذ محمد عبده الحجاجي عن ابن دقيق العيد:
« حفظ القرآن الكريم حفظاً تاماً، وتفقه على مذهب الإمام مالك على يد أبيه، ثم رجع وتفقه على مذهب الإمام الشافعي على يد تلميذ أبيه البهاء القفطي، كما درس النحو وعلوم اللغة على يد الشيخ محمد أبي الفضل المرسي، وشمس الدين محمود الأصفهاني، ثم ارتحل إلى القاهرة التي كانت في ذلك الوقت مركز إشعاع فكري وثقافي يفوق كل وصف، تكتظ بالعلماء والفقهاء في كل علم وفن، فانتهز ابن دقيق العيد هذه النهضة العلمية الواسعة التي شهدتها القاهرة في ذلك الوقت، والتف حول العديد من العلماء، وأخذ على أيديهم في كل علم وفن في نهم بالغ » انتهى.

أساتذته وشيوخه:

لازم سلطان العلماء الشيخ عز الدين بن عبد السلام حتى وفاته، وأخذ على يديه الأصول وفقه الإمام الشافعي، وسمع الحافظ عبد العظيم المنذري، وعبد الرحمن البغدادي البقال، ثم سافر بعد ذلك إلى دمشق وسمع بها من الشيخ أحمد عبد الدايم وغيره، ثم اتجه إلى الحجاز ومنه إلى الإسكندرية فحضر مجالس الشيوخ فيهما، وتفقه. وقد جمع بين فقهي الإمامين مالك والشافعي.

آراء بعض العلماء فيه:
لقد وصفه كثير من المؤرخين وكتّاب التراجم والطبقات كالسبكي وابن فضل الله العمري والأدفوي وغيرهم: بأنه لم يزل حافظاً للسانه، مقبلاً على شأنه . وقف نفسه على العلوم وقصدها، فأوقاته كلها معمورة بالدرس والمطالعة أو التحصيل والإملاء.
1) قال عنه بن سيد الناس: « لم أرَ مثله فيمن رأيت، ولا حملت عن أجلّ منه فيما رأيتُ ورويتُ، وكان للعلوم جامعاً، وفي فنونها بارعاً، مقدماً في معرفة علل الحديث على أقرانه، منفرداً بهذا الفن النفيس في زمانه، بصيراً بذلك شديد النظر في تلك المسالك.. وكان حسن الاستنباط للأحكام والمعاني من السنة والكتاب، مبرزاً في العلوم النقلية والعقلية » . طبقات الشافعية للسبكي ج 6، ص 2-3
2) قال الأدفوي في طالعه السعيد: كان له قدرة على المطالعة، رأيت خزانة المدرسة النجيبية بقوص فيها جملة كتب من جملتها عيون الأدلة لابن القمار في نحو ثلاثين مجلدة وعليها علامات له، وكذلك رأيت في المدرسة السابقية السنن الكبير للبيهقي على كل مجلدة علامة له أيضاً.

من مآثره:
ويقال إنه طالع كتب المدرسة الفاضلية بالقاهرة عن آخرها،وقد كان دأبه أن يقضي الليل في المطالعة والعبادة، فكان يطالع في الليلة الواحدة المجلد أو المجلدين، وربما تلا آية واحدة من القرآن الكريم فكرّرها حتى مطلع الفجر.
استمع له بعض أصحابه ليلة وهو يقرأ فوصل إلى قوله تعالى: { فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءلُونَ (110)}(المؤمنون) قال: فما زال يكررها إلى طلوع الفجر.

من أقواله:
« ما تعلمت كلمة ولا فعلت فعلاً إلا وأعددت له جواباً بين يدي الله عز وجل » .

من سماته:
كان مغرماً بالقراءة ، كثير النقد والتحري والتدقيق فيما يقرأ، لا يقبل الشيء من غير أن يعمل فيه فكره فيقبله أو يرفضه.
وكان رحمه الله في قضائه وآرائه وفتواه مثلاً أعلى للصدق والعدالة والنزاهة، لا يخشى في الحق لومة لائم أو بطش سلطان، فما كان يراه حقاً يطمئن عليه الشرع ينفذه ولو كان في ذلك غضباً للحكام والسلاطين.
وقد كان رحمه الله كريماً جواداً بجانب غيرته على الحق.. لا يخشى فيه لومة لائم.

من أعماله المهنية:
1) أسند إليه والي قوص منصب القضاء على مذهب الإمام مالك ، وذلك حينما أشار أحد المقربين إلى السلطان منصور بن لاجين قائلاً: « هل أدلك على محمد بن إدريس الشافعي، وسفيان الثوري وإبراهيم بن أدهم ؟ فعليك بابن دقيق العيد... » فكان أن تقلد ابن دقيق العيد هذا المنصب الذي ظل شاغلاً له مدة سبع سنوات، بلغت فيها شخصيته مكانة مرموقة في الديار المصرية .
ويقول بعض المؤرخين: « إن ابن دقيق العيد تردد في قبوله هذا المنصب حين عرض عليه وأبدى الامتناع والرفض لولا شدة الالحاح عليه » .
2) تقلد منصب التدريس بالمدرسة النجيبية ، وهي إحدى المدارس الشهيرة في قوص، وهو لم يتجاوز السابعة والثلاثين من عمره.
3) في القاهرة قام بالتدريس بالمدرسة الفاضلية، والكاملية، والصالحية، والناصرية.

من مؤلفاته:
1) كتاب الإلمام في الأحكام في عشرين مجلداً.
2) وشرح لكتاب التبريزي في الفقه.
3) وفقه التبريزي في أصوله.
4) كما شرح مختصر ابن الحاجب في الفقه.
5) كتاب الاقتراح في معرفة الاصطلاح.
6) وله ديوان شعر ونثر لا يخرج عن طريقة أهل عصره الذين عرفوا بالسجع والمحسنات البديعة.

وفاته:
توفي بالقاهرة في صبيحة يوم الجمعة لتسعة أيام بقيت من صفر 702 هـ بعد أن عمّر 77 عاماً، قضاها في خدمة الدين الإسلامي الحنيف في مختلف أنحاء العالم الإسلامي.وقد دفن يوم السبت، وكان يوماً مشهوداً عزيزاً في الوجود، وقد وقف جيش مصر ينتظر الصلاة عليه.

رحم الله ذلك الإمام الذي عاش مجهولاً بين كثير من الأجيال التي تلته ، وإن كان حقه أن يتصدر قائمة علمائنا الذين أفاد منهم الناس والمسلمون كثيراً.

عن موقع الفسطاط
 
الإمام الشاطبي


هو إبراهيم بن موسى بن محمد، كنيته: أبو إسحاق، نسبته: الغرناطي، والشاطبي، كان الإمام الشاطبي رحمه الله حريصا على إحياء السنة وإماتة البدعة، ولما كان المجتمع الغرناطي قد فشت فيه بدع منكرة، فقد تصدى لمقاومتها، فما هي عقيدة الإمام الشاطبي رحمه الله؟ وما هو موقفه من التأويل؟ وما هي أشهر مؤلفاته؟

هو: إبراهيم بن موسى بن محمد، كنيته: أبو إسحاق، نسبته: الغرناطي، والشاطبي، أما الغرناطي: فنسبة إلى مملكة غرناطة التي عاش فيها الشاطبي -رحمه الله- وأما الشاطبي: فنسبة إلى شاطبة، مدينة في شرقي الأندلس، وشرقي قرطبة، وهي مدينة كبيرة قديمة.
عاش هذا الإمام -رحمه الله- في القرن الثامن الهجري، في منطقة غرناطة التي تحكم من قبل بني نصر، وفي هذا القرن –أي: القرن الثامن- عاش أيضاً فيه شيخ الإسلام ابن تيمية وتلامذته المشهورون، منهم ابن القيم.
والأمة كما نعلم تحتاج في كل قرن إلى التجديد، فالشاطبي في هذا القرن بدأ في تجديد الدين؛ لأنه وَجَد في عصره أن الناس بحاجة إلى ذلك، ثم بدأ ليدخل في طلب العلم -كما سأعرضه عليكم- ولا يزال صابراً في ذلك حتى نفع الله به.
غرناطة هذه دخلها الإسلام على يد طارق بن زياد في سنة 92 هـ، في عهد الخليفة الوليد بن عبد الملك، لكن في القرن الثامن حصل ما حصل، فكان هناك حاجة إلى التجديد، ومعلوم أنه إذا استمر الإسلام فهو كالنهر في أول ما يجرى يكون صافياً، ثم تدخل الشوائب في أحوال المكلفين والبدع والأهواء فيحتاج إلى تجديد وتصفية في كل عصر من العصور.

مملكة غرناطة هذه الدولة دامت ما يقارب القرنين والنصف تقريباً، وازدهرت في القرن الثامن الهجري، وهو القرن الذي عاش فيه الشاطبي -رحمه الله- وقد امتاز هذا القرن بالاستقرار السياسي، وظهرت فيه وارتفعت راية الجهاد، لكن أخذ المسلمون في الضعف والترف، فبدأ في مملكة غرناطة تنتشر البدع وانغمس المسلمون في الملذات الدنيوية المباحة، والاهتمام بالزينة والمآكل والمشارب والأعياد غير المباحة، ودخلوا في كثيرٍ من المحرمات، فاحتاج الإمام الشاطبي وغيره في هذا القرن في البدء بتوعية الناس إلى المخاطر التي تنتظرهم، وتذكيرهم بأحكام دينهم الحنيف، وظهر ذلك في كتاب الاعتصام كما سندرسه -إن شاء الله- كما ظهر ذلك في كتاب اسمه الفتاوى له، فإنه عالج فيه كثيراً من المشاكل التي كانت في عصره، كان هذا العصر من الحالة الثقافية محل اهتمام من الأمراء بالعلم والعلماء، وبلغت الحركة الثقافية ذروته في عهد السلطان أبي الحجاج يوسف بن إسماعيل المصري عام 733 هـ إلى عام 755 هـ، وكان في هذا العصر من اهتمام الأمير أبي الوليد إسماعيل بن سلطان يوسف الثاني بحبه للأدباء والعلماء، وكانت لهم أيضاً هؤلاء الأمراء كتب في العلم، وكان هناك علماء مشهورون في هذه الفترة، وكان المذهب السائد في ذلك العصر في غرناطة هو المذهب المالكي.
قدر سنة ولادته بـ 720 هـ، ونشأ الإمام الشاطبي -رحمه الله- بغرناطة، وبقي في هذا الجو العلمي الناضج، ولم يقم بالرحلة خارج الأندلس التي قام بها غيره من الغرناطيين، بل لازم غرناطة إلى أن توفي بها رحمه الله.

نشأ عفيفاً ورعاً متصفاً بصفات طيبة، وأخلاق سامية نبيلة، كان ثبتاً صالحاً زاهداً سنيًّا إماماً، وكان -رحمه الله- أصوليًّا مفسراً، وفقيهاً محدثاً، ولغويًّا بيانيًّا، من أفراد العلماء المحققين الأثبات، وأكابر الأئمة الثقات، على قدم راسخ من الصلاح والعفة والتحري والورع.

أقبل الإمام الشاطبي -رحمه الله- على طلب العلم منذ نعومة أظفاره، فقد كان شغوفاً بالعلم منذ صغره. يحدثنا عن نفسه فيقول: "لم أزل منذ فتق للفهم عقلي، ووجه شطر العلم طلبي، أنظر في عقلياته وشرعياته، وأصوله وفروعه، لم أقتصر على علم دون علم، ولا أفردت عن أنواعه نوعاً دون آخر، حسبما اقتضاه الزمان والإمكان، وأعطته المنة المخلوقة في أصل فطرتي، بل خضت في لججه خوض المحسن للسباحة، وأقدمت في ميادينه إقدام الجري، حتى كدت أتلف في بعض أعماقه، وانقطع في رفقتي التي بالأنس بها تجاسرت على ما قدر لي، غائباً عن مقال القائل، وعذل العاذل، ومعرضاً عن صد الصاد، ولوم اللائم، إلى أن منّ عليّ الرب الكريم الرؤوف الرحيم، فشرح لي من معاني الشريعة ما لم يكن في حسباني، وألقى في نفسي القاصرة أن كتاب الله وسنة نبيه لم يتركا في سبيل الهداية لقائل ما يقول، ولا أبقيا لغيرهما مجالاً يعتد فيه، وإن الدين قد كمل، والسعادة الكبرى فيما وضع، والطلبة فيما شرع، وما سوى ذلك فضلال وبهتان، وإفك وخسران، ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس، ولكن أكثر الناس لا يشكرون، والحمد لله والشكر كثيراً كما هو أهله، فمن هنالك قويت نفسي على المشي في طريق بمقدار ما يسر الله فيه، فابتدأت بأصول الدين عملاً واعتقاداً، ثم بفروعه المبنية على تلك الأصول". انتهى..

تلقى الإمام الشاطبي -رحمه الله- عن كثير من العلماء الكبار الذين كانوا من خيرة العلماء بالأندلس في ذلك العصر، وكان لهم الأثر البالغ في تكوين شخصيته وتثقيفه بقسط كبير من المعارف العقلية والنقلية، حتى تمكن -رحمه الله- من الوقوف بفضل الله على جانب كبير من مقاصد الشريعة، فأخذ عن الشيخ الزيات، والشيخ أبو عبد الله العبدري والشيخ أبو سعيد بن لب، شيخ الشيوخ في غرناطة، وقل من لم يأخذ عنه في الأندلس في وقته، وأيضاً من شيوخه أبو عبد الله محمد بن علي الفخار المتوفى سنة 754 هـ بغرناطة، وكان من أحسن قراء الأندلس تلاوة وأداءً، وهو مفتوح عليه في علم العربية، وقد استفاد منه الشاطبي كما ذكر استفادة كبيرة، ومنهم الإمام الشريف رئيس العلوم اللسانية أبو القاسم محمد بن أحمد الشريف الحسني قاضي الجماعة المتوفى سنة 761 هـ بغرناطة، ومنهم أيضاً إمام وقته أبو عبد الله محمد بن محمد بن أحمد المقري المعروف بالمقري الكبير المتوفى سنة 758 هـ
الإمام الشاطبي -رحمه الله- كان من العلماء العاملين المجاهدين في إظهار الدين وإبطال البدع وإماتتها، وله مؤلفات مفيدة على قلتها.
ويبدو أن الإمام الشاطبي لم يكن معروفاً إلا بعد تأليفه كتابيه الموافقات والاعتصام، لذلك فإن المترجمين له لم يتعرضوا لذكر شيء من حياته ونشأته وأسرته بالتفصيل، وخاصة ما قبل التأليف، وهكذا كثير من العلماء لا يعرف إلا بعد أن يؤلف، أو يكون له مواقف يظهر بها علمه.
وقد أثنى كثير من العلماء على الإمام الشاطبي، وحق له أن يثنى عليه؛ فقد كان -رحمه الله- متفنناً في أنواع من الفنون، وعلى جانب كبير من مقاصد الشريعة.

كان -رحمه الله- مشهوراً بمقاومة البدع وأهلها، وكان يبين للناس السنن، ويحذر من البدع، وكان قد تولى الخطابة في الجامع الأعظم، فلما حاول أن يبين للناس ما دخل على الخطابة والإمامة من البدع، وجد مقاومة شديدة من أرباب البدع؛ حيث نسبوه إلى البدعة والضلالة والغباوة والجهل، وفي ذلك يقول: "فابتدأت بأصول الدين عملاً واعتقاداً، ثم بفروعه المبنية على تلك الأصول، وفي خلال ذلك أبين ما هو من السنن، أو من البدع، ثم أطالب نفسي بالمشي مع الجماعة التي سماها بالسواد الأعظم، في الوصف الذي كان عليه هو وأصحابه، وترك البدع التي نص عليها العلماء أنها بدع وأعمال مختلفة، وكنت في أثناء ذلك قد دخلت في بعض خطط الجمهور، من الخطابة والإمامة ونحوها، فلما أردت الاستقامة على الطريق وجدت نفسي غريباً، في جمهور أهل الوقت؛ لكون خططهم قد غلبت عليها العوائد، ودخلت على سننها الأصلية شوائب من المحدثات الزوائد، فرأيت أن الهلاك في اتباع السنة هو النجاة، وأن الناس لن يغنوا عني من الله شيئاً، فأخذت في ذلك على حكم التدريج في بعض الأمور، فقامت عليّ القيامة، وتواترت عليّ الملامة، وفَوّق إليّ العتاب سهامه، ونسبت إلى البدعة والضلالة، وأنزلت منـزلة أهل الغباوة والجهالة، شهادة تكتب، ويسألون عنها يوم القيامة". انتهى.

مؤلفات الإمام الشاطبي :
مؤلفاته ليست كثيرة، وقد أحسن من قال:
قليل منك يكفيني ولكن *** قليلك لا يقال له قليل
فمؤلفاته -رحمه الله- على قلتها لكن الكتاب الواحد منه يعدّ بعشرة كتب من غيره، فمن ذلك كتاب الاعتصام الذي بين أيدينا الآن، وكتاب الموافقات في أصول الفقه، وسماه (عنوان التعريف بأصول التكليف)، وله أيضاً كتاب في الفتاوى، عالج فيه مشاكل عصره، وله أيضاً شعر، وإن كان شعره محدوداً، وأيضاً من مؤلفاته (شرح رجز ابن مالك في النحو الألفية)، و(شرح جلي على الخلاصة) في النحو في أربعة أسفار كبار، لم يؤلف مثله، وله كتاب المجالس، شرح فيه كتاب البيوع من صحيح البخاري، وله كتاب الإفادات والإنشادات فهو محقق وموجود.
وله بعض كتب أتلفها في حياته لم يقتنع بها منها عنوان (الاتفاق في علم الاشتقاق) و(أصول النحو) وقد أتلفها في حياته، ومن أشهر كتبه كتاب (الاعتصام) وكتاب (الموافقات).

وقد نسب له رحمه الله عدة أمور من ذلك:
أن الدعاء لا ينفع، فإنه -رحمه الله- لم يقل بذلك، وإنما كان ينكر ما انتشر في ربوع مجتمع غرناطة في عصره من دعاء الإمام, والمأمومون يؤمنون على أدبار الصلوات المفروضة على هيئة الاجتماع، ويرى أنه بدعة؛ إذ لم يرد ذلك عن السلف الصالح.
قال رحمه الله: "فتارة نسبت إلى القول بأن الدعاء لا ينفع ولا فائدة فيه، كما يعزى إلى بعض الناس، بسبب أنني لم ألتزم الدعاء بهيئة الاجتماع في أدبار الصلاة حالة الإمامة".
ونسب له -رحمه الله- رفضه للصحابة وبغضه لهم، ولم يقل أيضاً بذلك، وحاشاه أن يقول ذلك، وإنما يرى أن ما انتشر في ربوع الأندلس من أدعية أئمة المساجد للخلفاء الراشدين فوق المنابر يوم الجمعة على وجه الالتزام أمر لم يأتِ به الشرع، فلم يكن يلتزم به في خطبته يوم الجمعة، مما أدى إلى اتهامه بالرفض، وفي هذا يقول رحمه الله: "وتارة نسبت إلى الرفض، وبغض الصحابة بسبب أني لم ألتزم ذكر الخلفاء الراشدين في الخطبة على وجه الخصوص؛ إذ لم يكن ذلك شأن السلف في خطبهم، ولا ذكره أحد من العلماء المعتبرين في أجزاء الخطب".
ورمي أيضاً -رحمه الله- بأنه يجيز الخروج على الأئمة والسلاطين؛ لأنه يرى أن الدعاء للأئمة والسلاطين على وجه الالتزام بدعة، كما هو منتشر في الأندلس، بحيث يُعتبر التارك لذلك مبتدعاً، فكان -رحمه الله- لا يلتزم بذلك في خطبته، وإنما يدعو للمسلمين عامة.
ونسب له أنه يعادي أولياء الله ولا يحبهم ولا يتولاهم، مع أنه بريء من ذلك كله، وإنما كان -رحمه الله- مقاوماً للبدع وأهلها حريصاً على إحياء السنة وإماتة البدعة.

ظهرت طائفة مبتدعة في الأندلس تزعم أنها من الصوفية، وأن هداية الخلق بأيديهم، فكانوا يجتمعون في بعض الليالي على الذكر بأصوات مرتفعة، ثم يغنون ويضربون بالأكف، ولهم أحوال وشطحات إلى آخر الليل، فتصدى الشاطبي لبيان زيفهم وزيغهم وضلالاتهم، وأنهم ليسوا من الصوفية المتقدمين، مما أدى إلى اتهامه بمعاداة أولياء الله، وليسوا من أولياء الله في شيء، وإنما أحوالهم أحوال شيطانية، وفي هذا يقول الإمام الشاطبي رحمه الله: "وتارة نسبت إلى معاداة أولياء الله، وسبب ذلك أني عاديت بعض الفقراء المبتدعين المخالفين للسنة، المنتصبين بزعمهم لهداية الخلق، وتكلمت للجمهور على جملة من أحوال هؤلاء الذين نسبوا أنفسهم إلى الصوفية، ولم يتشبهوا بهم".

عقيدة الشاطبي رحمه الله :
الشاطبي من علماء الأمة الكبار، لكنه -رحمه الله- كغيره بشر يصيب ويخطئ، ولذا فقد ظهرت منه بعض الأخطاء العقدية التي خالف فيها ما عليه أهل السنة والجماعة، وبالتأمل في كتب الشاطبي -رحمه الله- واستقراء مقالاته يتبين أنه -رحمه الله- يميل إلى قول الأشاعرة في بعض المسائل:
فيرى أن خبر الواحد لا يفيد العلم اليقيني، وإنما يفيد الظن فقط، وهذا مستفاد من تقسيماته -رحمه الله- لخبر الواحد إلى الثلاثة وكلها ظنية، ولم يحكم لأي نوع منها على أنه قطعي، بل ويتضح هذا المعنى في أنه يرى أن خبر الواحد لا يقطع به ولو صح سنده، إلا إذا استند إلى آية قرآنية قطعية.
إلا أنه -رحمه الله- يرى أن العقيدة تثبت بخبر الواحد إذا شهد له أصل قطعي كآية قرآنية أو سنة متواترة، فيكون خبر الواحد حينئذٍ كجزئي تحت معنى قرآني كلي.

موقف الشاطبي من التأويل :
موقف الإمام الشاطبي -رحمه الله- من التأويل لا يختلف عن موقف الأشاعرة، بل هو تقرير له من غير تعصب؛ لأنه -رحمه الله- يرى أن مسألة التأويل مسألة اجتهادية، لذلك يرى -رحمه الله- أن الدليل إذا عارضه قطعي كظهور تشبيه الخالق بالمخلوق فليس بدليل، فلابد من أن يحتاج له إلى دليل آخر، فهذا أصل مقرر عند كل من سلك مسلك التأويل في صفات البارئ، وإن كانت تتفاوت درجاتهم في ذلك.
بل يذهب -رحمه الله- إلى أبعد من ذلك، حيث يرى أن المرء إذا وجد خبراً يقتضي في الظاهر خرق العادة، كظهور تشبيه أو غيره فهو مخير بين أمرين، وله في أحدهما سعة، إما التفويض المطلق، وإما التأويل.
ومما يؤكد ما سبق أنه -رحمه الله- يرى أن التأويل يحتاج إليه في بعض المواطن، بل يرى أنه من طريقة السلف؛ لأن الأصل عنده التصديق والتسليم المحض لا الإنكار.
بعض آرائه المنهجية في المسائل العقدية والاختلافات المنهجية، ويتلخص ذلك في النقاط التالية:

1- أنه -رحمه الله- يرى أن الخلاف الواقع بين أهل السنة والجماعة وبين أصحاب البدع في صفات الله تعالى خلاف في الفروع لا في الأصول، ولا سيما إذا كان ذلك منهم على قصد حسن.
2- يعتبر مذهب السلف أحياناً هو الأصل في إثبات الصفات، وأن التأويل أيضاً غير خارج عن مذهبهم، بل ويرى أنه قد يحتاج إليه في بعض المواضع، وأن من هذا حاله خير ممن جعل أصله في تلك الأمور التكذيب بها.
3- بل يرى -رحمه الله- أن التسليم المحض والتأويل سيان، بكل منهما قال السلف لكن التسليم أسلم.
4- لم يكتب عقيدته بصورة مستقلة كما فعل غيره ممن كتبوا في العقائد، وإنما يعقد فصلاً غير مخصص لمسألة العقيدة، يقرر فيه قاعدة في فن ما، فيشير إلى عقيدته إشارة خفيفة، وأحياناً يذكر أثناء مناقشته لأهل البدع، فيورد أمثلة توضيحية يكون نصيب العقيدة منها قليلاً.
5- مناقشته -رحمه الله- في العقيدة كانت مع المعتزلة كثيراً، ومع الجهمية قليلاً، ونادراً ما يشير إلى أهل السنة والجماعة، وإن أشار فمراده بذلك الأشعرية فقط.
عقيدة الشاطبي في:

كلام الله تعالى:
ينكر أن يكون كلام الله بالصوت والحرف، ويثبت كلاماً نفيساً وهو قول الأشاعرة.

رؤية الله يوم القيامة:
يذهب إلى مذهب الأشاعرة في مسألة الرؤية، فالأشاعرة يثبتون الرؤية بدون إثبات جهة ولا مقابلة.

صفة الاستواء لله:
اضطربت أقوال الأشعرية في الاستواء ما بين تأويل وتفويض، فحكى بعضهم أن التفويض مذهب مال إليه المتقدمون من الأشعرية، مما جعل كثيراً من المتأخرين يختارونه بحجة أنه أسلم في زعمهم، وهو الذي ذهب إليه الإمام الشاطبي -رحمه الله- فقد سلك مسلك التفويض، ويرى أن ذلك مذهب السلف، مع أن الحقيقة ليس ذلك بمذهب السلف، وإنما مذهبهم تفويض الكيف والحقيقة لا المعنى.
بقية الصفات السمعية: الوجه، اليدان، العين، الرجل، القدم، الضحك، النـزول: قوله -رحمه الله- في هذه الصفات كقوله في الاستواء، بل صرح -رحمه الله- في موطن آخر أن هذه الصفات جوارح محسوسات لا يجوز إثباتها لله.
قال رحمه الله: "ومثاله في ملة الإسلام: مذهب الظاهرية في إثبات الجوارح للرب المنـزه عن النقائص، من العين، واليد، والرجل، والوجه، المحسوسات، والجهة، وغير ذلك من الثابت للمحدثات".
وكلامه هذا لا شك أنه يدل على أن عقيدته في هذه الصفات عدم الإثبات، إذ سمى إثبات هذه الصفات أنها إثبات جوارح، ولم يقيد ذلك بأن إثباتها مع التنـزيه أن ذلك عقيدة صحيحة.

تعريف الإيمان:
كان يقول -رحمه الله- بقول الأشعرية في تعريف الإيمان: إن الإيمان هو التصديق في اللغة والشريعة جميعاً، وإن الأفعال والأعمال من شرائع الإيمان لا من نفس الإيمان.
الكبيرة:
يقول بقول أهل السنة والجماعة في مصير مرتكب الكبيرة في الآخرة، حيث يرى أنه تحت المشيئة، إن شاء ربه عذبه، وإن شاء غفر له، وأنه لا يخلد في النار كالكافر إن دخلها.
عذاب القبر ونعيمه:
قال: "ولا نكير في كون الميت يعذب برد الروح إليه، ثم تعذيبه على وجه لا يقدر البشر على رؤيته لذلك ولا سماعه".
ومنهج الإمام الشاطبي -رحمه الله- في إثبات الغيبيات والرد على طوائف المبتدعة هو بعينه ما ذكره علماء أهل السنة والجماعة.
ويقول بقول أهل السنة والجماعة في مسألة الميزان، حيث أثبت أنه ميزان صحيح يوزن به الأعمال، وأن حقيقته وكيفية الوزن به غير معلومة لدينا، بل نؤمن به كما يليق بالدار الآخرة.
وسلك مسلك أهل السنة والجماعة في إثبات الصراط يوم القيامة.

كان الإمام الشاطبي -رحمه الله- حريصاً على إحياء السنة وإماتة البدعة، ولما كان المجتمع الغرناطي قد فشت فيه بدع منكرة، فقد تصدى -رحمه الله- لمقاومتها، مما جعله من المشهورين في المجتمع الغرناطي بمقاومة البدع وأهلها.

وفاة الإمام الشاطبي :
وتوفى يوم الثلاثاء الثامن من شهر شعبان سنة790هـ بغرناطة، وبذلك يكون قد عاش أكثر من سبعين عاماً قضاها -رحمه الله- في رحاب العلم الشرعي مكافحاً صابراً في طلب العلم، ونشر الحق وإحياء السنة وإماتة البدعة.

كيف ندرس كتاب عالم بهذه العقيدة؟ وألا يوجد كتاب آخر لعالم سلفي المعتقد؟
الجواب: هناك الكثير من علماء الإسلام الكبار، ولهم مؤلفات كثيرة نفع الله بها، تجد أن هناك ملاحظات إما عليهم أو على كتبهم كابن حجر والنووي وابن الجوزي وغيرهم، ولم يقل أحد بترك كتبهم بل الأمة على مدار تاريخها تَدرس وتُدرّس كتبهم وتنبه على أخطائهم، ولا حرج في ذلك، وطالب العلم يدرك ويميز الخطأ من الصواب، والشاطبي -رحمه الله- أحد هؤلاء العلماء.

قال شيخ الإسلام -رحمه الله- بعد أن ذكر مجموعة من العلماء ممن هم مثل الإمام الشاطبي لهم علم وفضل، ولكنهم شاركوا المبتدعة في بعض أصولهم فقال: "ثم إنه ما من هؤلاء إلا من له في الإسلام مساعٍ مشكورة وحسنات مبرورة، وله في الرد على كثير من أهل الإلحاد والبدع، والانتصار لكثير من أهل السنة والدين ما لا يخفى على من عرف أحوالهم، وتكلم فيهم بعلم وصدق وعدل وإنصاف، لكن لما التبس عليهم هذا الأصل المأخوذ ابتداء من المعتزلة، وهم فضلاء عقلاء، احتاجوا إلى طرده والتزام لوازمه فلزمهم بسبب ذلك من الأقوال ما أنكره المسلمون من أهل العلم والدين، وصار الناس بسبب ذلك منهم من يعظمهم؛ لما لهم من المحاسن والفضائل، ومنهم من يذمهم؛ لما وقع في كلامهم من البدع والباطل، وخيار الأمور أوساطها، وهذا ليس مخصوصاً بهؤلاء، بل مثل هذا وقع لطوائف من أهل العلم والدين، والله تعالى يتقبل من جميع عباده المؤمنين الحسنات، ويتجاوز لهم عن السيئات:
{ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ } [سورة الحشر:10]،
ولا ريب أن من اجتهد في طلب الحق والدين من جهة الرسول وأخطأ في بعض ذلك فالله يغفر له خطأه؛ تحقيقاً للدعاء الذي استجابه الله لنبيه والمؤمنين حيث قالوا:
{ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا } [سورة البقرة:286]" انتهى.
أما جواب السؤال الثاني: ألا يوجد كتاب آخر لعالم سلفي المعتقد؟
فسيأتي الجواب عليه بعد قليل.

كتاب الاعتصام :
من أعظم ما ألف هذا الإمام كتابيه (الموافقات) في أصول الشريعة، و(الاعتصام) في لزوم السنة والتحذير من البدع، وقد كان طرحه في الكتابين طرحاً لم يسبق إليه، فقد قيل: إنه أول من تكلم في مقاصد الشريعة كعلم مستقل، وذلك في كتاب الموافقات، وأول من قعّد علم أصول معرفة البدع في كتاب الاعتصام.
لماذا اخترنا كتاب الاعتصام ليكون هو مادة دراستنا ؟
من المتفق عليه عند علماء الاجتماع والسياسة والمؤرخون من الأمم المختلفة غير العرب ومن غير المسلمين على أن العرب لم يكن لهم قيمة ولا وزن، وما نهضوا هذه النهضة التي حيرت العالم في وقتهم من النهضة العلمية والعمرانية والجهادية والأخلاقية وغيرها إلا بتأثير الدين فيهم وهو الإسلام، وما كان يمكن أن يجمع ذلك التفرق والتشتت والقتال بينهم لأتفه الأسباب إلا بالدين، وما أصلح شؤونهم الداخلية والخارجية إلا الإسلام.
وأيضاً من المتفق عليه عند المسلمين وغيرهم وأمر مشاهد للعيان أنه حصل ضعف شديد للمسلمين بعد قوة، وحصل لهم ذل بعد عز، وفقر بعد غنى، وخور وخوف بعد شدة وبأس، وصاروا يطلبون من غيرهم أن يدافع عنهم، في حين أن قوى الأرض كلها كانت في أيديهم، وذهب ملكهم وصاروا دولاً ضعيفة متفرقة، فما سبب ذلك؟
العلمانيون والحداثيون وأصحاب الأقلام المريضة ينسبون هذا الضعف والذل الآن إلى الدين، ويقولون: لنلحق بركب أوربا، إذا أردنا الحضارة فلننبذ ديننا كما نبذت أوربا دينها.
وهذا الكلام فاسد عقلاً وشرعاً ومنطقاً لماذا؟ لأنه لا يمكن أن يكون السبب الواحد هو سبب إصلاح وفساد في وقت واحد، وكما قالوا العلة الواحدة لا يصدر عنها معلولات متناقضة، فكيف يكون الدين سبب لإصلاح من سلف، وهو سبب في إفساد من خلف؟
هذا لا يمكن، إذن فلنبحث عن سبب آخر غير السبب الذي أصلح الأول، فالسبب في سوء من خلف وما أحدثه من بدع ومحدثات في دينه وخلقه وسلوكه وعاداته هي التي فرقت الجماعة، ومزقت الكلمة، وزحزحت عن الصراط المستقيم، وكانت السبب في واقع الأمة اليوم.
من أجل ذلك كان تحرير مسائل البدع والابتداع من أهم ما ينفع المسلمين في أمر دينهم ودنياهم، ويكون أعظم عون للدعاة والمصلحين في هداية الخلق بإذن الله .
وقد كتب كثير من العلماء في البدع، وكان أكثر ما كتبوا في الترهيب والتنفير منها والرد على المبتدعين، وما رأينا أحداً هدُي إلى ما هدي إليه الشاطبي من البحث العلمي الأصولي في هذا الموضوع، وتقسيمه إلى أبواب يدخل في كل باب منها فصول كثيرة، وهذا هو جواب السؤال الثاني.
فقال

الباب الأول: في تعريف البدع ومعناها.
الثاني: في ذم البدع وسوء منقلب أهلها.
الثالث: في أن ذم البدع عام وفيه الكلام على شبه المبتدعة، ومن جعل البدع حسنة وسيئة.
الرابع: في مأخذ أهل البدع في الاستدلال.
الخامس: في البدع الحقيقية والإضافية والفرق بينهما.
السادس: في أحكام البدع وأنها ليست على رتبة واحدة.
السابع: في الابتداع هل يخص العبادات أن تدخل فيه العادات.
الثامن: في الفرق بين البدع والمصالح المرسلة والاستحسان.
التاسع: في السبب الذي لأجله افترقت فرق المبتدعة عن جماعة المسلمين.
العاشر: في بيان معنى الصراط المستقيم الذي انحرفت عنه المبتدعة.

قال محمد رشيد رضا -رحمه الله- في مقدمة تحقيقه لهذا الكتاب: "لولا أن هذا الكتاب ألف في عصر ضعف العلم والدين في المسلمين لكان مبدأ نهضة جديدة لإحياء السنة، وإصلاح شئون الأخلاق والاجتماع، ولكان المصنف بهذا الكتاب وبصنوه كتاب الموافقات الذي لم يسبق إلى مثله سابق أيضاً من أعظم المجددين في الإسلام.

ولشيخ الإسلام كلام متين ونفيس في البدع، ووضع قواعد وأصول وأحكام لها، لكن كلام شيخ الإسلام لم يجمعه كتاب واحد، فكلامه متفرق في عشرات من كتبه، ولو قام أحد العلماء أو طلاب العلم بجمع كلام ابن تيمية من متفرق كلامه، لكان هذا عملاً جباراً يشكر عليه.

المصدر: موقع المختار الإسلامي.

عن موقع قصة الإسلام
 
الإمام شيخ الإسلام ابن تيمية

الدكتور عبد الله بن صالح بن عبد العزيز الغصن



اعتنى بدراسة شخصية شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله القدامى والمحدثون، فكثرت الدراسات عنه، وتنوعت أهداف الدارسين لشخصيته، كل يأخذ منها ما يوافق تخصصه وهدفه، فهناك دراسات في سيرته الذاتية، ودراسات عن عقيدته، ودراسات عن فقهه، ودراسات عن تعمقه وإمامته في الحديث، ودراسات عن منهجه الدعوي، ودراسات عن فكره التربوي والاجتماعي، وغيرها.
وإذا استعرضت كتب التاريخ والرجال للقرن الثامن الهجري: فمن أبرز من يترجم له هو شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.

وإذا قرأت كتبه المحققة - وهي كثيرة - فإن في مقدمتها - غالباً - ذكر شيء من ترجمته
فشهرته بلغت الآفاق، وتكاد تجمع الكتب على الثناء عليه من القديم والحديث، ولذلك يجد الكاتب في سيرته صعوبة في اختيار المناسب من سيرته لما يبحث فيه، أما التوسع في ذكر سيرته فقد أغنت شهرته عن ذلك كما يقول عنه الحافظ ابن رجب رحمه الله: (وشهرته تغني عن الإطناب في ذكره، والإسهاب في أمره) .


1 - اسمه ونسبه:
هو أحمد تقي الدين أبو العباس بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم الخضر بن محمد بن الخضر بن علي بن عبد الله بن تيمية الحراني .
وذكر مترجموه أقوالاً في سبب تلقيب العائلة بآل (تيمية) منها ما نقله ابن عبد الهادي رحمه الله : (أن جده محمداً كانت أمه تسمى (تيمية)، وكانت واعظة، فنسب إليها، وعرف بها.
وقيل: إن جده محمد بن الخضر حج على درب تيماء، فرأى هناك طفلة، فلما رجع وجد امرأته قد ولدت بنتاً له فقال: يا تيمية، يا تيمية، فلقب بذلك) .

2 - مولده ونشأته:
ولد رحمه الله يوم الاثنين، عاشر، وقيل: ثاني عشر من ربيع الأول سنة 661هـ. في حرّان .
وفي سنة 667هـ أغار التتار على بلده، فاضطرت عائلته إلى ترك حران، متوجهين إلى دمشق ، وبها كان مستقر العائلة، حيث طلب العلم على أيدي علمائها منذ صغره، فنبغ ووصل إلى مصاف العلماء من حيث التأهل للتدريس والفتوى قبل أن يتم العشرين من عمره .

ومما ذكره ابن عبد الهادي رحمه الله عنه في صغره أنه: (سمع مسند الإمام أحمد بن حنبل مرات، وسمع الكتب الستة الكبار والأجزاء، ومن مسموعاته معجم الطبراني الكبير.
وعني بالحديث وقرأ ونسخ، وتعلم الخط والحساب في المكتب، وحفظ القرآن، وأقبل على الفقه، وقرأ العربية على ابن عبد القوي ، ثم فهمها، وأخذ يتأمل كتاب سيبويه حتى فهم في النحو، وأقبل على التفسير إقبالاً كلياً، حتى حاز فيه قصب السبق، وأحكم أصول الفقه وغير ذلك.
هذا كله وهو بعد ابن بضع عشرة سنة، فانبهر أهل دمشق من فُرط ذكائه، وسيلان ذهنه، وقوة حافظته، وسرعة إدراكه) .
(وقلّ كتاب من فنون العلم إلا وقف عليه، كأن الله قد خصه بسرعة الحفظ، وإبطاء النسيان لم يكن يقف على شيء أو يستمع لشيء - غالباً - إلا ويبقى على خاطره، إما بلفظه أو معناه، وكان العلم كأنه قد اختلط بلحمه ودمه وسائره.
فإنه لم يكن مستعاراً، بل كان له شعاراً ودثاراً، ولم يزل آباؤه أهل الدراية التامة والنقد، والقدم الراسخة في الفضل، لكن جمع الله له ما خرق بمثله العادة، ووفقه في جميع عمره لأعلام السعادة، وجعل مآثره لإمامته أكبر شهادة) .

وكان رحمه الله حسن الاستنباط، قوي الحجة، سريع البديهة، قال عنه البزار رحمه الله (وأما ما وهبه الله تعالى ومنحه من استنباط المعاني من الألفاظ النبوية والأخبار المروية، وإبراز الدلائل منها على المسائل، وتبيين مفهوم اللفظ ومنطوقه، وإيضاح المخصص للعام، والمقيد للمطلق، والناسخ للمنسوخ، وتبيين ضوابطها، ولوازمها وملزوماتها، وما يترتب عليها، وما يحتاج فيه إليها، حتى إذا ذكر آية أو حديثاً، وبين معانيه، وما أريد فيه، يعجب العالم الفطن من حسن استنباطه، ويدهشه ما سمعه أو وقف عليه منه) .

وكان رحمه الله ذا عفاف تام، واقتصاد في الملبس والمأكل، صيناً، تقياً، براً بأمه، ورعاً عفيفاً، عابداً، ذاكراً لله في كل أمر على كل حال، رجاعاً إلى الله في سائر الأحوال والقضايا، وقافاً عند حدود الله وأوامره ونواهيه، آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر، لا تكاد نفسه تشبع من العلم، فلا تروى من المطالعة، ولا تمل من الاشتغال، ولا تكل من البحث.

قال ابن عبد الهادي (ت - 744هـ) رحمه الله عنه: (ثم لم يبرح شيخنا رحمه الله في ازدياد من العلوم وملازمة الاشتغال والإشغال، وبث العلم ونشره، والاجتهاد في سبل الخير حتى انتهت إليه الإمامة في العلم والعمل، والزهد والورع، والشجاعة والكرم، والتواضع والحلم والإنابة، والجلالة والمهابة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وسائر أنواع الجهاد مع الصدق والعفة والصيانة، وحسن القصد والإخلاص، والابتهال إلى الله وكثرة الخوف منه، وكثرة المراقبة له وشدة التمسك بالأثر، والدعاء إلى الله وحسن الأخلاق، ونفع الخلق، والإحسان إليهم والصبر على من آذاه، والصفح عنه والدعاء له، وسائر أنواع الخير) .

3 - عصره:
أولاً: الناحية السياسية:
يستطيع الواصف للحالة السياسية لعصر ابن تيمية رحمه الله أن يحدد معالمها بثلاثة أمور رئيسة:
أ - غزو التتار للعالم الإسلامي.
ب - هجوم الفرنجة على العالم الإسلامي.
جـ - الفتن الداخلية، وخاصة بين المماليك والتتار والمسلمين.
وقد ذكر ابن الأثير رحمه الله وصفاً دقيقاً لذلك العصر، وهو من أهله:
فقال: (لقد بلي الإسلام والمسلمون في هذه المدة بمصائب لم يبتل بها أحد من الأمم: منها هؤلاء التتر: فمنهم من أقبلوا من الشرق ففعلوا الأفعال التي يستعظمها كل من سمع بها.
ومنها: خروج الفرنج - لعنهم الله - من الغرب إلى الشام وقصدهم ديار مصر وامتلاكهم ثغرها - أي دمياط -، وأشرفت ديار مصر وغيرها على أن يملكوها لولا لطف الله تعالى ونصره عليهم.
ومنها: أن السيف بينهم مسلول، والفتنة قائمة) .

فأما التتار: فقد كانوا فاجعة الإسلام والمسلمين في القرن السابع الهجري، في سقوط بغداد - وبها سقطت الخلافة العباسية - سنة (656هـ) وما قبل سقوط بغداد بسنوات ، وما بعد سقوط بغداد حيث كانت هذه الأحداث قريبة من ولادة شيخ الإسلام ابن تيمية (ولا بد أن يكون قد شاهد آثار هذا الخراب والدمار بأم عينيه، وسمع تفاصيله المؤلمة عمن رأوا مناظره وشهدوها وشاهدوها، فمن الطبيعي أن يتأثر قلبه الغيور المرهف بنكبة المسلمين هذه وذلتهم، وتمتلئ نفسه غيظاً وكراهية لأولئك الوحوش الضواري) .

وأما ظهور الفرنجة أو (الحروب الصليبية): فقد كانت ولادة ابن تيمية رحمه الله في بداية الدور الرابع لهذه الحروب الذي يمثل دور الضعف الفرنجي وتجدد قوة المسلمين، باسترداد كثير من المدن الشامية الكبرى، وإكمال مسيرة طرد الفرنج من بلاد المسلمين.

وأما الفتن الداخلية: فما كان يحصل بين المماليك وتنازعهم على السلطة وما كان يحصل بينهم وبين التتر المسلمين، وقد كان لابن تيمية رحمه الله مشاركة في إصلاح بعض هذا، وفي مقدمة مواقف ابن تيمية رحمه الله يذكر المؤرخون قصته مع آخر أمراء المماليك وذلك بتذكيره بحقن دماء المسلمين، وحماية ذراريهم وصون حرماتهم .

ثانياً: الناحية الاجتماعية:
كانت مجتمعات المسلمين خليطاً من أجناس مختلفة، وعناصر متباينة بسبب الاضطراب السياسي في بلادهم.
إذ اختلط التتار - القادمون من أقصى الشرق حاملين معهم عاداتهم وأخلاقهم وطباعهم الخاصة - بالمسلمين في ديار الإسلام الذين هم أقرب إلى الإسلام عقيدة وخلقاً من التتر.
ونوعية ثالثة: ألا وهي أسرى حروب الفرنجة والترك إذ كان لهم شأن في فرض بعض النظم الاجتماعية، وتثبيت بعض العوائد السيئة، والتأثير اللغوي العام على المجتمع المسلم.
إضافة إلى امتزاج أهل الأمصار الإسلامية بين بعضهم البعض بسبب الحروب الطاحنة من التتار وغيرهم، فأهل العراق يفرون إلى الشام، وأهل دمشق إلى مصر والمغرب وهكذا.
كل هذا ساعد في تكوين بيئة اجتماعية غير منتظمة وغير مترابطة، وأوجد عوائد بين المسلمين لا يقرها الإسلام، وأحدث بدعاً مخالفة للشريعة كان لابن تيمية رحمه الله أكبر الأثر في بيان الخطأ والنصح للأمة، ومقاومة المبتدعة .

ثالثاً: الناحية العلمية:
في عصر ابن تيمية رحمه الله قل الإنتاج العلمي، وركدت الأذهان، وأقفل باب الاجتهاد وسيطرت نزعة التقليد والجمود، وأصبح قصارى جهد كثير من العلماء هو جمع وفهم الأقوال من غير بحث ولا مناقشة، فألفت الكتب المطولة والمختصرة، ولكن لا أثر فيها للابتكار والتجديد، وهكذا عصور الضعف تمتاز بكثرة الجمع وغزارة المادة مع نضوب في البحث والاستنتاج.
ويحيل بعض الباحثين ذلك الضعف إلى: سيادة الأتراك والمماليك مما سبب استعجام الأنفس والعقول والألسن، إضافة إلى اجتماع المصائب على المسلمين، فلم يكن لديهم من الاستقرار ما يمكنهم من الاشتغال بالبحث والتفكير .

ولا ينكر وجود أفراد من العلماء النابهين أهل النبوغ، ولكن أولئك قلة لا تنخرم بهم القاعدة. وثمة أمر آخر في عصر ابن تيمية أثر في علمه ألا وهو: اكتمال المكتبة الإسلامية بكثير من الموسوعات الكبرى في العلوم الشرعية: من التفسير، والحديث، والفقه، وغيرها.
فالسنة مبسوطة، والمذاهب مدونة، ولم يعد من السهل تحديد الكتب التي قرأها وتأثر بها، ولا معرفة تأثير شيوخه عليه بدقة.

4 - محن الشيخ:
امتحن الشيخ مرات عدة بسبب نكاية الأقران وحسدهم، ولما كانت منزلة شيخ الإسلام في الشام عالية عند الولاة وعند الرعية وشى به ضعاف النفوس عند الولاة في مصر، ولم يجدوا غير القدح في عقيدته، فطلب إلى مصر، وتوجه إليها سنة 705 هـ. بعدما عقدت له مجالس في دمشق لم يكن للمخالف فيها حجة ، وبعد أن وصل إلى مصر بيوم عقدوا له محاكمة كان يظن شيخ الإسلام رحمه الله أنها مناظرة، فامتنع عن الإجابة حين علم أن الخصم والحكم واحد .
واستمر في السجن إلى شهر صفر سنة 707هـ، حيث طلب منه وفد من الشام بأن يخرج من السجن، فخرج وآثر البقاء في مصر على رغبتهم الذهاب معهم إلى دمشق.
وفي آخر السنة التي أخرج فيها من السجن تعالت صيحات الصوفية في مصر، ومطالباتهم في إسكات صوت شيخ الإسلام رحمه الله فكان أن خُير شيخ الإسلام بين أن يذهب إلى دمشق أو إلى الإسكندرية أو أن يختار الحبس، فاختار الحبس، إلا أن طلابه ومحبيه أصروا عليه أن يقبل الذهاب إلى دمشق، ففعل نزولاً عند رغبتهم وإلحاحهم.
وما إن خرج موكب شيخ الإسلام من القاهرة متوجهاً إلى دمشق، حتى لحق به وفد من السلطان ليردوه إلى مصر ويخبروه بأن الدولة لا ترضى إلا الحبس.
وما هي إلا مدة قليلة حتى خرج من السجن وعاد إلى دروسه، واكب الناس عليه ينهلون من علمه.
وفي سنة 709هـ نفي من القاهرة إلى الإسكندرية، وكان هذا من الخير لأهل الإسكندرية ليطلبوا العلم على يديه، ويتأثروا من مواعظه، ويتقبلوا منهجه، لكن لم يدم الأمر طويلاً لهم، فبعد سبعة أشهر طلبه إلى القاهرة الناصر قلاوون بعد أن عادت الأمور إليه، واستقرت الأمور بين يديه، فقد كان من مناصري ابن تيمية رحمه الله وعاد الشيخ إلى دورسه العامرة في القاهرة.
وامتحن شيخ الإسلام بسبب فتواه في مسألة الطلاق ، وطُلب منه أن يمتنع عن الإفتاء بها فلم يمتنع حتى سجن في القلعة من دمشق بأمر من نائب السلطنة سنة 720هـ إلى سنة 721هـ لمدة خمسة أشهر وبضعة أيام.

وبحث حساده عن شيء للوشاية به عند الولاة فزوروا كلاماً له حول زيارة القبور، وقالوا بأنه يمنع من زيارة القبور حتى قبر نبينا محمد صلّى الله عليه وسلّم، فكتب نائب السلطنة في دمشق إلى السلطان في مصر بذلك، ونظروا في الفتوى دون سؤال صاحبها عن صحتها ورأيه فيها، فصدر الحكم بحقه في شعبان من سنة 726هـ بأن ينقل إلى قلعة دمشق ويعتقل فيها هو وبعض أتباعه واشتدت محنته سنة 728هـ حين أُخرج ما كان عند الشيخ من الكتب والأوراق والأقلام، ومنع من ملاقاة الناس، ومن الكتابة والتأليف .

5 - وفاته رحمه الله:
في ليلة الاثنين لعشرين من ذي القعدة من سنة (728 هـ) توفي شيخ الإسلام بقلعة دمشق التي كان محبوساً فيها، وأُذن للناس بالدخول فيها، ثم غُسل فيها وقد اجتمع الناس بالقلعة والطريق إلى جامع دمشق، وصُلي عليه بالقلعة، ثم وضعت جنازته في الجامع والجند يحفظونها من الناس من شدة الزحام، ثم صُلي عليه بعد صلاة الظهر، ثم حملت الجنازة، واشتد الزحام، فقد أغلق الناس حوانيتهم، ولم يتخلف عن الحضور إلا القليل من الناس، أو من أعجزه الزحام، وصار النعش على الرؤوس تارة يتقدم، وتارة يتأخر، وتارة يقف حتى يمر الناس، وخرج الناس من الجامع من أبوابه كلها وهي شديدة الزحام .

6 - مؤلفاته:
مؤلفات الشيخ كثيرة يصعب إحصاؤها، وعلى كثرتها فهي لم توجد في بلد معين في زمانه إنما كانت مبثوثة بين الأقطار كما قال الحافظ البزار (ت - 749هـ) رحمه الله:
(وأما مؤلفاته ومصنفاته، فإنها أكثر من أن أقدر على إحصائها أو يحضرني جملة أسمائها. بل هذا لا يقدر عليه غالباً أحد؛ لأنها كثيرة جداً، كباراً وصغاراً، أو هي منشورة في البلدان فقل بلد نزلته إلا ورأيت فيه من تصانيفه) .
وقال الحافظ ابن رجب الحنبلي (ت - 795هـ) رحمه الله:
(وأما تصانيفه رحمه الله فهي أشهر من أن تذكر، وأعرف من أن تنكر، سارت سير الشمس في الأقطار، وامتلأت بها البلاد والأمصار، قد جاوزت حدّ الكثرة فلا يمكن أحد حصرها، ولا يتسع هذا المكان لعدّ المعروف منها، ولا ذكرها) .
وذكر ابن عبد الهادي (ت - 744هـ) رحمه الله أن أجوبة الشيخ يشق ضبطها وإحصاؤها، ويعسر حصرها واستقصاؤها، لكثرة مكتوبه، وسرعة كتابته، إضافة إلى أنه يكتب من حفظه من غير نقل فلا يحتاج إلى مكان معين للكتابة، ويسئل عن الشيء فيقول: قد كتبت في هذا، فلا يدري أين هو؟ فيلتفت إلى أصحابه، ويقول: ردوا خطي وأظهروه لينقل، فمن حرصهم عليه لا يردونه، ومن عجزهم لا ينقلونه، فيذهب ولا يعرف اسمه.
ولما حبس شيخ الإسلام خاف أصحابه من إظهار كتبه، وتفرقوا في البلدان، ومنهم من تسرق كتبه فلا يستطيع أن يطلبها أو يقدر على تخليصها .

ومن أبرز كتبه ما يلي:
1 - الاستقامة: تحقيق د. محمد رشاد سالم. طبع في جزئين.
2 - اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم: تحقيق د. ناصر العقل طبع في جزئين.
3 - بيان تلبيس الجهمية: حقق في ثمان رسائل دكتوراه، بإشراف شيخنا فضيلة الشيخ: عبد العزيز بن عبد الله الراجحي.
4 - الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح: طبع بتحقيق د. علي بن حسن بن ناصر، ود. عبد العزيز العسكر، ود. حمدان الحمدان، وكان في الأصل ثلاث رسائل دكتوراه .
5 - درء تعارض العقل والنقل: طبع بتحقيق د. محمد رشاد سالم في عشرة أجزاء، والجزء الحادي عشر خُصص للفهارس .
6 - الصفدية: تحقيق د. محمد رشاد سالم، طبع في جزئين.
7 - منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية: تحقيق د. محمد رشاد سالم، وطبع في ثمانية أجزاء، وخصص الجزء التاسع منه للفهارس .
8 - النبوات: مطبوع .
وله من الكتب والرسائل الكثير جداً مما طبع بعضه مستقلاً، وبعضه في مجاميع كبيرة وصغيرة، والكثير منه لا يزال مخطوطاً سواء كان موجوداً أو في عداد المفقود .

7 - بعض ثناء الناس عليه:
قال العلامة كمال الدين بن الزملكاني (ت - 727هـ) : (كان إذا سئل عن فن من العلم ظن الرائي والسامع أنه لا يعرف غير ذلك الفن، وحكم أن أحداً لا يعرفه مثله، وكان الفقهاء من سائر الطوائف إذا جلسوا معه استفادوا في مذاهبهم منه ما لم يكونوا عرفوه قبل ذلك، ولا يعرف أنه ناظر أحداً فانقطع معه ولا تكلم في علم من العلوم، سواء أكان من علوم الشرع أم غيرها إلا فاق فيه أهله، والمنسوبين إليه، وكانت له اليد الطولى في حسن التصنيف، وجودة العبارة والترتيب والتقسيم والتبيين ) .
وقال أيضاً فيه: (اجتمعت فيه شروط الاجتهاد على وجهها) .

وكتب فيه قوله:
ماذا يقول الواصفون له *** وصفاته جلّت عن الحصر
هو حجة لله قاهرة *** هو بيننا أعجوبة الدهر
هو آية للخلق ظاهرة *** أنوارها أربت على الفجر

وقال ابن دقيق العيد رحمه الله : (لما اجتمعت بابن تيمية رأيت رجلاً العلوم كلها بين عينيه، يأخذ منها ما يريد، ويدع ما يريد) .
وقال أبو البقاء السبكي : (والله يا فلان ما يبغض ابن تيمية إلا جاهل أو صاحب هوى، فالجاهل لا يدري ما يقول، وصاحب الهوى يصده هواه عن الحق بعد معرفته به) ،
وحين عاتب الإمام الذهبي (ت - 748هـ) الإمام السبكي كتب معتذراً مبيناً رأيه في شيخ الإسلام ابن تيمية بقوله:
(أما قول سيدي في الشيخ، فالمملوك يتحقق كبر قدره، وزخاره بحره، وتوسعه في العلوم الشرعية والعقلية، وفرط ذكائه واجتهاده، وبلوغه في كل من ذلك المبلغ الذي يتجاوز الوصف، والمملوك يقول ذلك دائماً، وقدره في نفسي أعظم من ذلك وأجل، مع ما جمع الله له من الزهادة والورع والديانة، ونصرة الحق والقيام فيه، لا لغرض سواه، وجريه على سنن السلف، وأخذه من ذلك بالمأخذ الأوفى، وغرابة مثله في هذا الزمان بل من أزمان) .
وأما ثناء الإمام الذهبي على شيخه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله فهو كثير، وذِكر ثناء الإمام الذهبي على ابن تيمية هو الغالب على من ترجم لشيخ الإسلام ابن تيمية، وعلى مواضع ترجمة ابن تيمية في كتب الإمام الذهبي، ولعلي أذكر بعض مقولات الإمام الذهبي في ابن تيمية، ومنها قوله:
(ابن تيمية: الشيخ الإمام العالم، المفسر، الفقيه، المجتهد، الحافظ، المحدث، شيخ الإسلام، نادرة العصر، ذو التصانيف الباهرة، والذكاء المفرط) .
وقوله: (... ونظر في الرجال والعلل، وصار من أئمة النقد، ومن علماء الأثر مع التدين والنبالة، والذكر والصيانة، ثم أقبل على الفقه، ودقائقه، وقواعده، وحججه، والإجماع والاختلاف حتى كان يقضى منه العجب إذا ذكر مسألة من مسائل الخلاف، ثم يستدل ويرجح ويجتهد، وحق له ذلك فإن شروط الاجتهاد كانت قد اجتمعت فيه، فإنني ما رأيت أحداً أسرع انتزاعاً للآيات الدالة على المسألة التي يوردها منه، ولا أشد استحضاراً لمتون الأحاديث، وعزوها إلى الصحيح أو المسند أو إلى السنن منه، كأن الكتاب والسنن نصب عينيه وعلى طرف لسانه، بعبارة رشيقة، وعين مفتوحة، وإفحام للمخالف...) .
وقال: (... هذا كله مع ما كان عليه من الكرم الذي لم أشاهد مثله قط، والشجاعة المفرطة التي يضرب بها المثل، والفراغ عن ملاذ النفس من اللباس الجميل، والمأكل الطيب، والراحة الدنيوية) .

ومما قاله في رثائه:

يا موت خذ من أردت أو فدع *** محوت رسم العلوم والورع
أخذت شيخ الإسلام وانقصمت *** عرى التقى واشتفى أولو البدع
غيبت بحراً مفسراً جبلاً *** حبراً تقياً مجانب الشيع
أسكنه الله في الجنان ولا *** زال علياً في أجمل الخلع
مضى ابن تيمية وموعده *** مع خصمه يوم نفخة الفزع


وقال فيه: (... كان قوالاً بالحق، نهاءً عن المنكر، لا تأخذه في الله لومة لائم، ذا سطوة وإقدام، وعدم مداراة الأغيار، ومن خالطه وعرفه قد ينسبني إلى التقصير في وصفه...) .
وقال عنه: (... لا يؤتى من سوء فهم، بل له الذكاء المفرط، ولا من قلة علم فإنه بحر زخار، بصير بالكتاب والسنة، عديم النظير في ذلك، ولا هو بمتلاعب بالدين، فلو كان كذلك لكان أسرع شيء إلى مداهنة خصومه وموافقتهم ومنافقتهم، ولا هو ينفرد بمسائل بالتشهي.... فهذا الرجل لا أرجو على ما قلته فيه دنيا ولا مالاً ولا جاهاً بوجه أصلاً، مع خبرتي التامة به، ولكن لا يسعني في ديني ولا في عقلي أن أكتم محاسنه، وأدفن فضائله، وأبرز ذنوباً له مغفورة في سعة كرم الله تعالى....) .
وقال الشوكاني رحمه الله (إمام الأئمة المجتهد المطلق) .

رحم الله شيخ الإسلام ابن تيمية، واسكننا وإياه في الفردوس الأعلى من جنته .

( نقلا عن كتاب " دعاوى المناوئين لشيخ الإسلام ابن تيمية " للدكتور عبدالله الغصن - وفقه الله ، طبع دار ابن الجوزي بالدمام ،ص161-139، ومن أراد الهوامش فعليه بالكتاب .. ).

عن موقع الشيخ ابن تيمية
 
الإمام ابن القيم


هو أبو عبد الله شمس الدين محمد بن أبي بكر بن أيوب الزُّرعي الدمشقي . الشهير بـ ( ابن قيّم الجوزية ) أو ابن القيم اختصاراً .
وُلِد – رحمه الله – سنة إحدى وتسعين وستمائة للهجرة .
وسببُ تسميته بابن قيم الجوزية ، أن والده – رحمه الله – كان قَيِّماً على المدرسة الجوزية بدمشق ، والقيّم هو الناظر أو الوصي ، وهو ما يُشبه المدير في زمننا هذا . وكان والدُ ابن القيّم من علماء دمشق .
وأما بالنسبة للخلط بينه وبين ابن الجوزي – رحمه الله – فإن سبب ذلك يعود إلى الاشتراك في التّسمية ، حيث إن المدرسة التي كان أبوه قيّماً لها تُنسب لابن الجوزي ، إذ هو واقِفُها ، وهو – أي ابن الجوزي – واعظُ بغداد ، وصاحب المصنّفات الكثيرة ، وهو أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن عبيد الله بن الجوزي القرشي البغدادي ، ت ( 597 هـ ) وهو مُتقدّم على ابن القيم . رحم الله الجميع .
وغَلِطَ في الخلط بينهما بعض الكتاب حتى نسبوا بعض كُتب ابن الجوزي إلى ابن القيّم .
وقد نشأ ابن القيم – رحمه الله – في بيت علم وفضل .
فأبوه وأخوه وابنُ أخيه وابناه عبد الله وإبراهيم كانوا من العلماء البارزين في عصرهم .

أخلاقه :
وكان – رحمه الله – صاحبَ هِمّةٍ عالية وخُلُقٍ فاضل .
قال عنه تلميذُه ابن كثير : وكان حسنُ القراءة والخُلُق ، كثير التّودد ، لا يحسِد ُأحداً ولا يؤذيه ، ولا يستعيبه ، ولا يحقد على أحدٍ ، وبالجملة كان قليل النظير في مجموعه وأموره وأحواله ، والغالب عليه الخير والأخلاق الفاضلة .
وقال عنه تلميذُه الآخر ابن رجب : وكان رحمه الله ذا عبادة وتهجُّد وطول صلاةٍ إلى الغاية القصوى ، وتألُّهٍ ولهْجٍ بالذِّكر ، وشغفٍ بالمحبة والإنابة والاستغفار ، والافتقار إلى الله والانكسار لـه ... ولا رأيتُ أوسع منه علمـاً ، ولا أعـرف بمعاني القـرآن والسُّنّــة وحقـائق
الإيمان أعلم منه ، وليس هو المعصوم ولكن لم أرَ في معناه مثله .

طلـبُه للعلم :
طلب العلم صغيراً ، فقد بدأ في طلب العلم وعمره سبع سنوات ، كما ذكر ذلك في كتابه النافع الماتع ( زاد المعاد في هدي خير العباد صلى الله عليه وسلم ) فقد ذَكَر أنه سمِع من شيخه الشهاب العابر ، وشيخُه هذا توفي سنة ( 697 هـ ) وابن القيم وُلـِدَ سنة ( 691 ) كما تقدّم .
وكان ابن القيم في أولِ حياته قد تأثّر ببعض أقوال أهل البدع إلى أن قيّض الله لـه شيخَ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – على ما ذَكَرَ هو في النونية حيث قال :

يا قومُ واللهِ العظيم نصيحةٌ *** من مشفق وأخٍ لكم مِعوانِ
جرّبت هذا كلَّه ووقعت في*** تلك الشباك وكنت ذا طيرانِ
حتى أتاح لي الإله بفضله *** من ليس تجزيه يدي ولساني
حبرٌ أتى من أرض حرّان فيا *** أهلا بمن قد جاء من حـران
فالله يجزيه الذي هو أهلُه *** من جنة المأوى مع الرضوان
أخَذّتْ يداه يدي وسار فلم يَرُم *** حتى أراني مَطْلَعَ الإيـمان
ورأيت أعلام المدينة حولها *** نزل الهدى وعساكر القرآن
ورأيت آثارا عظيما شأنُها *** محجوبةً عن زمرة العميان
ووردت رأس الماء أبيض صافيا *** حصباؤه كلالئ التيجان
ورأيت أكوابا هناك كثيرةً *** مثل النجوم لواردٍ ظمآن
ورأيت حوض الكوثر الصافي الذي *** لا زال يشخب فيه ميزابان
ميزابُ سنتـه وقـولُ إلـهه *** وهما مدى الأيام لا يَنيان
والناس لا يردونه إلا من الـ *** آلاف أفرادا ذوو إيمان
وردوا عِذاب مناهل أكرِم بها *** ووردتم أنتم عذاب هوان

ثم لازم ابنُ القيمِ شيخَ الإسلام ابنَ تيمية وأخذ عنه الكثير ، وكان أكثر ذلك بعد عودة شيخِ الإسلام من مصر سنة ( 712 هـ ) إلى أن مات شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله –
قال تلميذه ابن رجب : تفقّه في المذهب ، وبرع وأفتى ، ولازم الشيخ تقي الدين ابن تيمية ، وتفنن في علوم الإسلام ، وكان عارفاً في التفسير لا يُجارى فيه ، وبأصول الدين وإليه فيها المنتهى ، والحديث ومعانيه وفقهه ، ودقائق الاستنباط منه لا يُلحق في ذلك .

ومما يدلّ على سعة علمه واطلاعه كثرة مصنّفانه حتى أنه كان يؤلف ويكتب المجلدات في أسفاره .
ومن ذلك أنه ألّف بعض الكتب في أسفاره ، فمن ذلك :
1 – مفتاح دار السعادة .
2 – زاد المعاد .
3 – روضة المحبين .
4 – بدائع الفوائد .
5 – تهذيب سنن أبي داود .
ولا غرابة في ذلك فهو تلميذ الإمام الجهبذ شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله –
ولا غرابة أن يؤلف ويكتب ويُصنِّف في أسفاره ، فهو بحرٌ لا تُكدِّره الدلاء ، ولا أدل على ذلك من كتابه ( الداء والدواء ) وطُبِع باسم آخر ( الجواب الكافي ) فقد ألّفه إجابة على سؤال واحد وَرَدَ إليه .

ابتلاؤه وامتحانه :
الابتلاء سُنّةٌ ربانية ، وقد سُئل الإمام الشافعي – رحمه الله – :يُبتلى المرء أو يُمكّن لـه ؟
فقال : يُبتلى المرء ثم يُمكّن له ؟
وابن القيّم – رحمه الله – لم يتبوأ تلك المكانة العالية إلا بعد أن ابتُلي .
قال ابن رجب : وقد امتُحِن وأُذيَ مراتٍ وحُبِسَ مع تقيّ الدين في المرة الأخيرة بالقلعة منفرداً عنه ، ولم يُفرج عنه إلا بعد موت الشيخ .
كما امتُحن بسبب بعض فتاواه في بعض المسائل التي خالَف فيها علماء عصره ، والتي استبان له فيها الحق أو أنه رأى أن الحقّ فيما ذَهَبَ إليه مما أدّاه اجتهاده إليه .
ومن ذلك أنه أنكر شدّ الرحال إلى قبر الخليل .
قال ابن رجب : وقد حُبِسَ مدةً لإنكاره شدّ الرحال إلى قبر الخليل .
وأفتى في مسألة الطلاق الثلاث بلفظ واحد أنه يقع طلقة واحدة .
وكان مع ذلك – أي مع مخالفته للمذهب أحياناً - شديد الاحترام للأئمة ، فهو يحكي أقوالهم ، ويستأنس بها لما يختاره .
قال – رحمه الله – : وكثيرا ما ترد المسألة نعتقد فيها خلاف المذهب فلا يسعنا أن نفتي بخلاف ما نعتقده فنحكي المذهب الراجح ونرجحه ، ونقول هذا هو الصواب وهو أولى أن يؤخذ به ، وبالله التوفيق .اهـ .

طريقته في التأليف :
ألفّ ابن القيم – رحمه الله – فكان يعتمد في مؤلفاته على الدليل من الكتاب والسنة ، فلا يُخالف الدليل متابعة للمذهب أو ردّاً للسنة ، حاشاه ذلك ولم يكن هذا من شأن العلماء بل هو من شأن السَّفَلة والبطّالين ، الذين ثَقُلَ عليهم الكتاب والسنة والتنقيب في بطون الكتب .
ثم إنه – رحمه الله – ( كما قال الشيخ الفاضل بكر أبو زيد ) : لا يتهم دليلاً من أدلة الدين بحيث يظنه فاسد الدلالة ، أو ناقص الدلالة أو قاصرها ، أو أن غيرَه أولى منه .
قال : ومتى عرض له شيءٌ من ذلك فليتّهم فهمَه ، وليعلم أن البليّة منه .
ثم إنه – رحمه الله – يُقدّم أقوال الصحابة رضي الله عنهم على من سواهم .
ومما يُميّز مؤلفاته – رحمه الله – سعة علمه وشمولية أفكاره .
ومما يُميّز مؤلفات ابن القيم – رحمه الله – حُسنَ الترتيب والسياق ، وهذه ميزةٌ بارزة في مؤلفاته ، لا تكاد تجدها لسواه ، فكلامه مرتّب ، فهو يُعالج القضية التي بين يديه أو التي يُناقشها وكأنها تخصصه وفنّه الذي لا يُتقن سواه ، فهو كما ذكر معالي الشيخ صالح آل الشيخ عن شيخه الشيخ عبد الرزاق عفيفي – رحمه الله – فإنه قال : شيخ الإسلام يأتي إلى جدار الباطل فيهدمه بضربة واحدة ، وأما ابن القيم فينقضه حجراً حجراً .
ولا يعني هذا أن كلام ابن تيمية – رحمه الله – غير مرتّب ، فمن تأمل كتابه منهاج السنة النبوية أو الجواب الصحيح وغيرهما من كُتُبِه يجد في من ذك الشيء الكثير .
وابن القيم – رحمه الله – أفكاره مرتّبة سواء كان ذلك في الردود أو في تقرير المسائل أو في التقعيد والتأصيل .
ومن ذلك أنه – رحمه الله – لما أراد أن يُدلل على فضل العلم وشرفِه ساق فضله من أكثر من مائةٍ وخمسين وجهاً ، بدأ بالأهم فالأهم ، وذلك في المجلّد الأول من مفتاح دار السعادة ، وقد تقدّم أنه ألّف هذا الكتاب في بعض أسفاره .
ومما امتازت به مصنّفات ابن القيم – رحمه الله – الإنصاف ، فهو يُنصف خصومه وينظر إلى الأمور بعين إنصاف لا بعين هضم لحقوق الآخرين وإسقاط الرموز ، وغمر حسنات الآخرين المخالفين .

لما قـال صاحب منازل السائرين: اللطيفة الثالثة أن مشاهدة العبد الحكم لم تدع له استحسان حسنة ولا استقباح سيئة لصعوده من جميع المعاني إلى معنى الحكم .
قال – رحمه الله – متعقّباً لـه : هذا الكلام إن اُخذ على ظاهره فهو من أبطل الباطل الذي لولا إحسان الظن بصاحبه وقائله ومعرفة قدره من الإمامة والعلم والدين لنسب إلى لازم هذا الكلام ، ولكن من عدا المعصوم فمأخوذ من قوله ومتروك ، ومن ذا الذي لم تَـزِلّ به القَدَم ولم يَكْب به الجواد .

وقال صاحب منازل السائرين في موضع آخر : الرجاء أضعف منازل المريدين ؛ لأنه معارضة من وجه واعتراض من وجه ، وهو وقوع في الرعونة في مذهب هذه الطائفة وفائدة واحدة نطق بـها التنـزيل والسنة وتلك الفائدة هي كونه يبـرد حرارة الخوف حتى لا يفضي بصاحبه إلى اليأس .
فقال – رحمه الله – : شيخ الإسلام (1) حبيب إلينا والحق أحب إلينا منه وكل من عدا المعصوم فمأخوذ من قوله ومتروك ونحن نحمل كلامه على أحسن محامِله ثم نبين ما فيه … فأما قوله الرجاء أضعف منازل المريدين فليس كذلك بل هو من أجل منازلهم وأعلاها وأشرفها وعليه وعلى الحب والخوف مدار السير إلى الله ، وقد مدح الله تعالى أهله وأثنى عليهم فقال : { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآَخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا }
وقال في موضع ثالث : شيخ الإسلام – يعني الهروي - حبيبنا ولكن الحق أحب إلينا منه ، وكان شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – يقول : عمله خير من علمه ، وصدق -رحمه الله – فسيرته بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وجهاد أهل البدع لا يشقُّ لـه فيها غبار ، وله المقامات المشهورة في نصرة الله ورسوله ، وأبى الله أن يكسو ثوب العصمـة لغير الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى صلى الله عليه وسلم .
وتلك الأخطاء لو وجدها صبيان الصحف لطاروا بها ولطيّروها ، ولَبَنَوْا عليها قصوراً ، ولَشيّدوا عليها منارات ، يظنّون أنهم بهذا الفعل أتوا بما لم تأت به الأوائل !
فهذا شيء من إنصافه ، وله وصيةٌ في ذلك .

قال – رحمه الله – : فإذا أردت الاطلاع على كُنه المعنى هل هو حق أو باطل فجرِّده من لباس العبارة ، وجرِّد قلبك عن النفرة والميل ثم أعط النظر حقه ، ناظرا بعين الإنصاف ، ولا تكن ممن ينظر في مقالة أصحابه ومن يحسن ظنه نظرا تامّاً بكل قلبه ، ثم ينظر في مقالة خصومه وممن يسيء ظنه به كنظر الشّزَر والملاحظة ، فالناظر بعين العداوة يرى المحاسن مساوئ ، والناظر بعين المحبة عكسه ، وما سلم من هذا إلا من أراد الله كرامته وارتضاه لقبول الحق . اهـ .
فما أحوجنا إلى هذا الأدب من هذا العالِم الرّباني ، وما أحوج الناس إلى الإنصاف ، وطلاّب العلم على وجه الخصوص .

وقد ألّف ابن القيم – رحمه الله – في شتى العلوم ، في التفسير وعلوم القرآن والحديث وعلله ورجاله والفقه وأصوله ، واللغة ، والسلوك والأخلاق ، وله كتاب في الفروسية ، وله كتاب شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل كتاب حافل نافع في بابه لم يُسبق إلى مثله ، أفاد وأجاد فيه ، وله كتاب جلاء الأفهام في الصلاة والسلام على خير الأنام صلى الله عليه وسلم ، وهو كتابٌ فريدٌ في بابه كذلك ، وألّف كُتباً في الفوائد التي كان ينتقيها ويجمعها بين الحين والآخر ، مثل : كتاب بدائع الفوائد ، وكتاب الفوائد .

عن موقع الشيخ ابن تيمية
 
الشيخ الدكتور سيد سابق.. الداعية الفقيه

محمد قبيس



قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين، وإنما العلم بالتعلم، وإن الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم لم يورثوا دينارًا ولا درهمًا، وإنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر ).
فهكذا أنجبت هذه الأمة من حمل همَّها، وهمَّ تربية أبنائها، وفهم دينها فهمًا صحيحًا، فكان درعًا واقيًا للأمة من الوقوع في الوهم والشطط البعيد عما أراده كتاب الله وسُنَّة نبيه .
والشيخ سيد سابق رحمه الله نحسبه واحدًا من هؤلاء الذين اجتهدوا، فلاقى فقهه قبولاً وسط الناس جميعًا؛ لبساطته وحيويته ونجح في تقريبه إلى جماهير الأمة، بعد أن ظل دهرًا مغلقًا على فئة المتخصصين، فاستحق بذلك أن يكون أول رائد لتقريب الفقه إلى العامة من الناس.

مولد الشيخ سيد سابق
ولد فضيلة الشيخ الدكتور سيد سابق رحمه الله في يناير 1915م في قرية إسطنها، وهي إحدى قرى مركز الباجور التابعة لمحافظة المنوفية بمصر.

الشيخ سيد سابق وبداية مشرقة
وقد أتم حفظ القرآن ولم يتجاوز تسع سنوات، ثم التحق على إثره بالأزهر في القاهرة، وظل يتلقى العلم ويترقى حتى حصل على العالمية في الشريعة عام 1947م، ثم حصل بعدها على الإجازة من الأزهر، وهي درجة علمية أعلى.

الشيخ سيد سابق .. شاب على الجادة
تربى الشيخ سيد سابق في مقتبل حياته في الجمعية الشرعية على يد مؤسسها الشيخ السبكي رحمه الله، وتزامل مع خليفته الشيخ عبد اللطيف مشتهري رحمه الله، فتشرَّب محبة السُّنَّة. وكان لهمَّته العالية وذكائه وصفاء سريرته أثرٌ في نضجه المبكر، وتفوقه على أقرانه، حتى برع في دراسة الفقه واستيعاب مسائله، وما إن لمس فيه شيخه تفوقًا حتى كلفه بإعداد دروس مبسطة في الفقه وتدريسها لأقرانه، ولم يكن قد تجاوز بعدُ 19 عامًا من عمره.
وكان لشيخه أثر عظيم على شخصيته وطريقة تفكيره، ومن ذلك ما يحكيه في بداية حرب فلسطين، فيقول: وقد كنا في ريعان شبابنا أخذني الحماس أمام الشيخ السبكي في أحد دروسه، فقلت له: ما زلتَ تحدثنا عن الأخلاق والآداب! أين الجهاد والحث عليه؟!
قال: فأمرني الشيخ بالجلوس.
فرددت: حتى متى نجلس؟
قال: يا بني، إذا كنت لا تصبر على التأدب أمام العالِم، فكيف تصبر على الجهاد في سبيل الله؟!
قال: فهزتني الكلمة جدًّا، وظل أثرها في حياتي حتى يومنا هذا.

عمل الشيخ سيد سابق بالأزهر
عمل بالتدريس بعد تخرجه في المعاهد الأزهرية، ثم بالوعظ في الأزهر، ثم انتقل إلى وزارة الأوقاف في نهاية الخمسينيات متقلدًا إدارة المساجد، ثم الثقافة...، فالدعوة، فالتدريب إلى أن ضُيِّق عليه فانتقل إلى مكة المكرمة للعمل أستاذًا بجامعة الملك عبد العزيز، ثم جامعة أم القرى، وأسند إليه فيها رئاسة قسم القضاء بكلية الشريعة، ثم رئاسة قسم الدراسات العليا، ثم عمل أستاذًا غير متفرغ. وقد حاضر خلال هذه الفترة ودرَّس الفقه وأصوله، وأشرف على أكثر من مائة رسالة علمية، وتخرج على يديه كوكبة من الأساتذة والعلماء.

نشاط الشيخ سيد سابق الدعوي
بايع الشيخ سيد سابق الإمام حسن البنا على العمل للإسلام ونشر الدعوة، وجمع الأمة على كلمةٍ سواء، وتفقيهها في أمور دينها.

جهاد الشيخ سيد سابق وسجنه
كان مع علمه وعبادته وكثرة صومه ذا شوقٍ للجهاد، وما إن لاحت أمامه الفرصة حتى كان في أول كتيبة في حرب 1948م مفتيًا ومعلمًا للأحكام، ومربيًا على القيام والدعاء والذكر، وموجهًا إلى حسن التوكُّل والأخذ بالأسباب، ومحرضًا على الفداء، ومدربًا على استخدام السلاح وتفكيكه، وبعد مقتل النقراشي اتُّهِم الشيخ بقتله، وأُطلق عليه (مفتي الدماء) ممن أرادوا وأد الجهاد يومها.
وحوكم الشيخ بعد أن قضى عامين من الاضطهاد والتعذيب، فما لانت له قناة ولا وهنت له عزيمة، بل كان كما عُهِد عنه مربيًا فاضلاً حاثًّا على الصبر، مبينًا لسنن الابتلاء والتمحيص، وبعد أن بُرِّئت ساحته خرج ليواصل جهاد الكلمة، وحين تكررت الفرصة بعد النكسة عاد أدراجه لساحة القتال في حرب رمضان، يوجه الجنود ويرفع معنويات الجيش.

أخلاق الشيخ سيد سابق وسجاياه
كان الشيخ سيد سابق فقيهًا مجربًا محنكًا، مثالاً للعلم الوافر والخلق الرفيع والمودة والرحمة في تعامله، وكان عفيف اللسان، ويمتاز بذاكرة قوية وذكاء مفرط وحضور بديهة، وقد رُزق حسن المنطق في جزالة وإيجاز، وكان ذا روح مرحة، وُضعت له معها المحبة والقبول. وكذلك فإنه يمتاز بوعي شديد، واطلاع دائم على الأحداث والمتغيرات، فإذا ما استجدَّ أمر في الأمة عرض له، وبيَّن حكمه في غاية الوضوح والجرأة.

الشيخ سيد سابق فقيها ومفتيا
اشتغل الشيخ سيد بالفقه أكثر من غيره من الدعاة الأزهريين؛ لأنه وجده أليق بتخصصه في كلية الشريعة، وقد بدأت كتاباته الفقهية في مجلات أسبوعية منوعة على شكل مقالات، فبدأ بفقه الطهارة معتمدًا على كتب (فقه الحديث)، وهي الكتب التي تهتم بأحاديث الأحكام مثل كتاب (سبل السلام) للإمام الصنعاني، وكتاب (نيل الأوطار) للشوكاني، ومستفيدًا أيضًا من كتاب (الدين الخالص) لشيخه محمود خطاب السبكي، وكتاب (المغني) لابن قدامة، وكتاب (زاد المعاد) لابن قيم الجوزية.

منهج الشيخ سيد سابق في الفقه
تميز منهجه بميزات جعلته قريبًا من الناس ومقبولاً لديهم، وأبرز هذه الميزات:
1 ـ طرح التعصب للمذاهب مع عدم تجريحها.
2 ـ الاستناد إلى أدلة الكتاب والسنة والإجماع.
3 ـ الميل إلى التيسير بعيدًا عن تعقيد المصطلحات وعمق التعليلات.
4 ـ الترخيص للناس فيما يقبل الترخيص؛ استنادًا لحديث " إن الله يحب أن تُؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه ".
5 ـ البعد عن ذكر الخلاف إلا ما لا بُدَّ منه، واختيار الأرجح، أو ترك الترجيح إذا تكافأت عنده الأقوال والأدلة.
6 ـ التنبيه على الحِكم والفوائد من النصوص النبوية.

اهتمام الشيخ سيد سابق بالفقه وعنايته به
كتب الشيخ سيد سابق الجزء الأول من كتابه الذي سماه (فقه السنة) في أواسط الأربعينيات، وكان في فقه الطهارة، وقد صدّره بمقدمة للإمام حسن البنا تنوِّه بمنهج السيد سابق في الكتابة، وتشيد بحسن طريقته في عرض الفقه، وتجيد بها؛ إذ إن الفقه من أعظم القربات إلى الله في نشر الدعوة الإسلامية وبث الأحكام، حتى يكون الناس على بينة من أمرهم في عباداتهم وأعمالهم، وليكون حافزًا لهم على الاستزادة من المعرفة والإقبال على العلم.

مكانة كتاب فقه السنة
لقد سدَّ كتاب (فقه السنة) فراغًا في المكتبة الإسلامية في مجال الأحكام التي تؤخذ من الأحاديث مباشرة وفي مجال الفقه عمومًا، الفقه الذي لا يتعصب لمذهب من المذاهب؛ ولهذا لقي القبول والاستحسان من الناس.
ومما زاد الكتاب قيمة علمية تعليق العلاَّمة ناصر الدين الألباني -رحمه الله- وتحقيقه على فقه السنة تحت عنوان (تمام المنة على فقه السنة)، وهو مطبوع مند سنوات.
وقد حصل الشيخ سيد سابق -رحمه الله- على جائزة الملك فيصل في مجال الدراسات الإسلامية عام 1994م عن كتاب فقه السنة، ووسام الامتياز من مصر.

مكانة الشيخ سيد سابق وفضله
يعرف للرجل مكانته وفضله كل من عاشره، أو تتلمذ على يديه؛ فقد تخرج على يديه ألوف العلماء وطلبة العلم من عشرات الأجيال، ومن هؤلاء: الدكتور يوسف القرضاوي، والدكتور أحمد العسال، والدكتور محمد الراوي، والدكتور عبد الستار فتح الله، وكثير من علماء مكة وأساتذتها من أمثال الدكتور صالح بن حميد، والدكتور العلياني.
بل إنه في شبابه كان محل ثقة واستعانة علماء كبار في حينها من أمثال: الشيخ محمود شلتوت، وأبي زهرة، والغزالي.
يحكي عنه ولده محمد أنه كان يزوره في بيته علماء كبار من الأزهر، وكان يجلس للتدريس وهم مصغون مستمعون من أمثال: الشيخ عبد الجليل عيسى، والشيخ منصور رجب، والشيخ الباقوري، كما كان قوله فصلاً بين المختلفين في المسائل.

أهم مؤلفات الشيخ سيد سابق
إضافة إلى كتابه الشهير (فقه السنة)، فقد كان للشيخ سيد سابق العديد من الكتب الإسلامية المهمة، مثل:
1 ـ مصادر القوة في الإسلام.
2- الربا والبديل.
3 ـ رسالة في الحج.
4 - رسالة في الصيام.
5 ـ تقاليد وعادات يجب أن تزول في الأفراح والمناسبات.
6 ـ تقاليد وعادات يجب أن تزول في المآتم.
7 ـ العقائد الإسلامية.
8 - إسلامنا.
وغير ذلك من الكتب والمحاضرات والأبحاث والمقالات.

أواخر حياته
استقر الشيخ سيد سابق في القاهرة قبل ثلاث سنوات من وفاته، وأصرَّ على نشر العلم والدعوة في مساجدها، رغم حالته الصحية، ونصح الأطباء له بالراحة.
وظل منارة حق وخير للناس حتى وافاه الأجل في يوم الأحد 23 ذي القعدة 1420هـ الموافق 27 فبراير 2000م عن عمر يناهز الخامسة والثمانين.

قالوا عن الشيخ سيد سابق
قال الشيخ أبو عبد الرحمن غنيم غنيم المصري: "وكان موسوعة في الفقه إلا أنه قد وقع في تأويلات الأشاعرة في كتابه العقائد الإسلامية".

عن موقع قصة الإسلام
 
عودة
أعلى