سلسلة من علماء الحديث الشريف

  • بادئ الموضوع Nabil
  • تاريخ البدء

Nabil

التحالف يجمعنا
مستشار المنتدى
إنضم
4/5/19
المشاركات
10,848
التفاعلات
19,863
سلسلة من علماء الحديث الشريف


الإمام البخاري


100px-Sbukhari.jpg


نسبه ونشأته:
هو محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة بن بَرْدِزْبَه، أبو عبد الله البخاري الحافظ إمام أهل الحديث في زمانه. وُلِد البخاري (رحمه الله) في شوال سنةَ أربع وتسعين ومائة، ومات أبوه وهو صغير، فنشأ في حجر أمه، فألهمه الله حفظ الحديث وهو في المكتب، وقرأ الكتب المشهورة وهو ابن ست عشرة سنة، حتى قيل إنه كان يحفظ وهو صبي سبعين ألف حديث سردًا.

شيوخه:
سمع بمسقط رأسه بخارى من الجعفي المسندي، ومحمد بن سلام البيكندي، وجماعة ليسوا من كبار شيوخه، ثم رحل إلى بلخ، وسمع هناك من مكي بن إبراهيم وهو من كبار شيوخه، وسمع بمرو من عبدان بن عثمان، وعلي بن الحسن بن شقيق، وصدقة بن الفضل. وسمع بنيسابور من يحيى بن يحيى، وجماعة من العلماء، وبالري من إبراهيم بن موسى.
ثم رحل إلى مكة وسمع هناك من أبي عبد الرحمن المقرئ، وخلاد بن يحيى، وحسان بن حسان البصري، وأبي الوليد أحمد بن محمد الأزرقي، والحميدي. وسمع بالمدينة من عبد العزيز الأويسي، وأيوب بن سليمان بن بلال، وإسماعيل بن أبي أويس.
وأكمل رحلته في العالم الإسلامي آنذاك، فذهب إلى مصر ثم ذهب إلى الشام وسمع من أبي اليمان، وآدم بن أبي إياس، وعلي بن عياش، وبشر بن شعيب، وقد سمع من أبي المغيرة عبد القدوس، وأحمد بن خالد الوهبي، ومحمد بن يوسف الفريابي، وأبي مسهر، وآخرين.

تلاميذه:
روى عنه خلائق وأمم، وقد روى الخطيب البغدادي عن الفِرَبْرِيِّ أنه قال: "سمع الصحيح من البخاري معي نحو من سبعين ألفًا، لم يبقَ منهم أحد غيري". وقد روى عنه حماد بن شاكر، وإبراهيم بن معقل، وطاهر بن مخلد، وآخر من حدَّث عنه أبو طلحة منصور بن محمد بن علي البردي النسفي، وقد تُوفِّي النسفي هذا في سنة تسع وعشرين وثلاثمائة، ووثَّقه الأمير أبو نصر بن ماكولا. وممن روى عن البخاريِّ مسلمٌ في غير الصحيح، وكان مسلم تتلمذ له ويعظمه، وروى عنه الترمذي في جامعه، والنسائي في سننه في قول بعضهم، وقد دخل بغداد ثماني مرات، وفي كلٍّ منها يجتمع بالإمام أحمد، فيحثه أحمد على المقام ببغداد، ويلومه على الإقامة بخراسان.

ملامح شخصيته:
تميَّز الإمام البخاري بصفات عذبة وشمائل كريمة، لا تتوافر إلا في العلماء المخلصين، وهذه الصفات هي التي صنعت الإمام البخاري.
1- الإقبال على العلم. قام البخاري بأداء فريضة الحج وعمره ثماني عشرة سنة، فأقام بمكة يطلب بها الحديث، ثم رحل بعد ذلك إلى سائر مشايخ الحديث في البلدان التي أمكنته الرحلة إليها، وكتب عن أكثر من ألف شيخ.
2- الجِدُّ في تحصيل العلم. وقد كان البخاري يستيقظ في الليلة الواحدة من نومه، فيوقد السراج ويكتب الفائدة تمر بخاطره، ثم يُطفئ سراجه، ثم يقوم مرة أخرى وأخرى حتى كان يتعدد منه ذلك قريبًا من عشرين مرة.
3- قوة الحفظ. وقد ذكروا أنه كان ينظر في الكتاب مرة واحدة، فيحفظه من نظرة واحدة، والأخبار عنه في ذلك كثيرة.
4- أمير المؤمنين في الحديث. دخل مرة إلى سمرقند فاجتمع بأربعمائة من علماء الحديث بها، فركَّبوا أسانيد، وأدخلوا إسناد الشام في إسناد العراق، وخلطوا الرجال في الأسانيد، وجعلوا متون الأحاديث على غير أسانيدها، ثم قرءوها على البخاري، فردَّ كل حديث إلى إسناده، وقوَّم تلك الأحاديث والأسانيد كلها، وما تعنتوا عليه فيها، ولم يقدروا أن يجدوا عليه سقطة في إسناد ولا متن، وكذلك صنع في بغداد.

من كرم البخاري وسماحته:
كان لا يفارقه كيسه، وكان يتصدق بالكثير، فيأخذ بيده صاحبَ الحاجة من أهل الحديث فيناوله ما بين العشرين إلى الثلاثين، وأقل وأكثر من غير أن يشعر بذلك أحد.

ورعه:
قال محمد بن إسماعيل البخاري: "ما وضعت في كتاب الصحيح حديثًا إلا اغتسلت قبل ذلك وصليت ركعتين".
وكان الحسين بن محمد السمرقندي يقول: "كان محمد بن إسماعيل مخصوصًا بثلاث خصال، مع ما كان فيه من الخصال المحمودة: كان قليل الكلام، وكان لا يطمع فيما عند الناس، وكان لا يشتغل بأمور الناس، كل شغله كان في العلم".

من كلمات البخاري:
- "لا أعلم شيئًا يحتاج إليه إلا وهو في الكتاب والسنة".
- "ما أردت أن أتكلم بكلام فيه ذكر الدنيا إلا بدأت بحمد الله والثناء عليه".

مؤلفاته:
وقد صنَّف البخاري ما يزيد على عشرين مصنفًا، منها:
- الجامع الصحيح المسند من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأيامه، المعروف بـ(الجامع الصحيح).
- الأدب المفرد. وطُبع في الهند والأستانة والقاهرة طبعات متعددة.
- التاريخ الكبير. وهو كتاب كبير في التراجم، رتب فيه أسماء رواة الحديث على حروف المعجم، وقد طبع في الهند سنة (1362هـ/ 1943م).
- التاريخ الصغير. وهو تاريخ مختصر للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ومن جاء بعدهم من الرواة إلى سنة (256هـ/ 870م)، وطبع الكتاب أولَ مرة بالهند سنة (1325هـ/ 1907م).
- خلق أفعال العباد. وطبع بالهند سنة (1306هـ/ 1888م).
- رفع اليدين في الصلاة. وطبع في الهند أولَ مرة سنة (1256هـ/ 1840م)، مع ترجمة له بالأوردية.
- الكُنى. وطبع بالهند سنة (1360هـ/ 1941م).
وله كتب مخطوطة لم تُطبع بعدُ، مثل: التاريخ الأوسط، والتفسير الكبير.

صحيح البخاري:
هو أشهر كتب البخاري، بل هو أشهر كتب الحديث النبوي قاطبةً. بذل فيه صاحبه جهدًا خارقًا، وانتقل في تأليفه وجمعه وترتيبه وتبويبه ستة عشر عامًا، هي مدة رحلته الشاقة في طلب الحديث. ويذكر البخاري السبب الذي جعله ينهض إلى هذا العمل، فيقول: "كنت عند إسحاق بن راهويه، فقال: لو جمعتم كتابًا مختصرًا لصحيح سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. فوقع ذلك في قلبي، فأخذت في جمع (الجامع الصحيح)".
وعدد أحاديث الكتاب 7275 حديثًا، اختارها من بين ستمائة ألف حديث كانت تحت يديه؛ لأنه كان مدقِّقًا في قبول الرواية، واشترط شروطًا خاصة في رواية راوي الحديث، وهي أن يكون معاصرًا لمن يروي عنه، وأن يسمع الحديث منه، أي أنه اشترط الرؤية والسماع معًا، هذا إلى جانب الثقة والعدالة والضبط والإتقان والعلم والورع.
وكان البخاري لا يضع حديثًا في كتابه إلا اغتسل قبل ذلك وصلى ركعتين. وابتدأ البخاري تأليف كتابه في المسجد الحرام والمسجد النبوي، ولم يتعجل إخراجه للناس بعد أن فرغ منه، ولكن عاود النظر فيه مرة بعد أخرى، وتعهده بالمراجعة والتنقيح؛ ولذلك صنفه ثلاث مرات حتى خرج على الصورة التي عليها الآن.
وقد استحسن شيوخ البخاري وأقرانه من المحدِّثين كتابه، بعد أن عرضه عليهم، وكان منهم جهابذة الحديث، مثل: أحمد بن حنبل، وعلي بن المديني، ويحيى بن معين؛ فشهدوا له بصحة ما فيه من الحديث، ثم تلقته الأمة بعدهم بالقبول باعتباره أصح كتاب بعد كتاب الله تعالى.
وقد أقبل العلماء على كتاب الجامع الصحيح بالشرح والتعليق والدراسة، بل امتدت العناية به إلى العلماء من غير المسلمين؛ حيث دُرس وتُرجم، وكُتبت حوله عشرات الكتب.

ثناء العلماء عليه:
قال أبو نعيم أحمد بن حماد: "هو فقيه هذه الأمة". وكذا قال يعقوب بن إبراهيم الدورقي، ومنهم من فضَّله في الفقه والحديث على الإمام أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه. وقال قتيبة بن سعيد: "رحل إليَّ من شرق الأرض وغربها خلق، فما رحل إليَّ مثل محمد بن إسماعيل البخاري".
وقال أبو محمد عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي: "محمد بن إسماعيل البخاري أفقهنا وأعلمنا وأغوصنا وأكثرنا طلبًا". وقال إسحاق بن راهويه: "هو أبصر مني". وقال أبو حاتم الرازي: "محمد بن إسماعيل أعلم من دخل العراق".
وقد أثنى عليه علماء زمانه من شيوخه وأقرانه؛ قال الإمام أحمد: "ما أخرجت خراسان مثله". وقال علي بن المديني: "لم ير البخاري مثل نفسه". وقال إسحاق بن راهويه: "لو كان في زمن الحسن لاحتاج الناس إليه في الحديث ومعرفته وفقهه". وقال أبو بكر بن أبي شيبة، ومحمد بن عبد الله بن نمير: "ما رأينا مثله". وقال علي بن حجر: "لا أعلم مثله".

وفاته:
كانت وفاته ليلة عيد الفطر سنةَ ستٍّ وخمسين ومائتين، وكان ليلة السبت عند صلاة العشاء، وصلى عليه يوم العيد بعد الظهر، وكُفِّن في ثلاثة أثواب بيض ليس فيها قميص ولا عمامة وفق ما أوصى به، وحينما دفن فاحت من قبره رائحة غالية أطيب من ريح المسك، ثم دام ذلك أيامًا، ثم جعلت ترى سواري بيض بحذاء قبره، وكان عمره يوم مات ثنتين وستين سنة. رحمه الله رحمة واسعة، وأسكنه فسيح جناته.

عن موقع قصة الإسلام

المراجع:
- البداية والنهاية، ابن كثير.
- الوافي في الوفيات، صلاح الدين الصفدي.
- سير أعلام النبلاء، الذهبي.
- تهذيب الكمال، ج1، ص 516.

يتبع
 
التعديل الأخير:
الإمام مسلم

100px-SaheehMuslim.jpg


اسمه ونسبه:
هو الإمام الحافظ المجوِّد الحُجَّة الصادق، أبو الحسين مسلم بن الحجاج بن مسلم بن ورد بن كوشاذ القشيري النيسابوري. وقُشَير قبيلة من العرب معروفة، ونيسابور مدينة مشهورة بخراسان من أحسن مدنها، وأجمعها للعلم والخير. وُلِد بنيسابور سنةَ 206هـ/ 821م.

الطفولة والنشأة:
نشأ الإمام مسلم في بيت تقوى وصلاح وعلم، فقد كان والده حجاج بن مسلم القشيري أحد محبي العلم، وأحد من يعشقون حلقات العلماء، فتربى الإمام وترعرع في هذا الجوِّ الإيماني الرائع. وقد بدأ الإمام مسلم (رحمه الله) رحلته في طلب العلم مبكرًا، فلم يكن قد تجاوز الثانية عشرة من عمره حين بدأ في سماع الحديث؛ قال الذهبي: "وأول سماعه في سنة ثماني عشرة من يحيى بن يحيى التميمي، وحج في سنة عشرين وهو أمرد".

شيوخه:
للإمام مسلم (رحمه الله) شيوخ كثيرون، بلغ عددهم مائتين وعشرين رجلاً، وقد سمع بمكة من عبد الله بن مسلمة القعنبي، فهو أكبر شيخ له، وسمع بالكوفة والعراق والحرمين ومصر. ومن أبرز هؤلاء الأئمة: يحيى بن يحيى النيسابوري، وقتيبة بن سعيد، وسعيد بن منصور، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وأبو خيثمة زهير بن حرب، وأبو كريب محمد بن العلاء، وأبو موسى محمد بن المثنى، وهناد بن السري، ومحمد بن يحيى بن أبي عمر، ومحمد بن يحيى الذهلي، والبخاري، وعبد الله الدَّارِمِي، وإسحاق الكوسج، وخلق سواهم.

تلاميذه:
علي بن الحسن بن أبي عيسى الهلالي، وهو أكبر منه، ومحمد بن عبد الوهاب الفرَّاء شيخه، ولكن ما أخرج عنه في (صحيحه)، والحسين بن محمد القباني، وأبو بكر محمد بن النضر بن سلمة الجارودي، وعلي بن الحسين بن الجنيد الرازي، وصالح بن محمد جزرة، وأبو عيسى الترمذي في (جامعه)، وأحمد بن المبارك المُسْتَمْلِي، وعبد الله بن يحيى السرخسي القاضي، ونصر بن أحمد بن نصر الحافظ، وغيرهم كثير.

مؤلفاته:
للإمام مسلم (رحمه الله) مؤلفات كثيرة، منها ما وُجد، ومنها ما فُقد؛ ومن هذه المؤلفات:
- كتابه الصحيح، وهو أشهر كتبه.
- كتاب التمييز.
- كتاب العلل.
- كتاب الوُحْدَان.
- كتاب الأفراد.
- كتاب الأَقْران.
- كتاب سؤالاته أحمد بن حنبل.
- كتاب عمرو بن شعيب.
- كتاب الانتفاع بأُهُبِ السِّباع.
- كتاب مشايخ مالك.
- كتاب مشايخ الثوري.
- كتاب مشايخ شعبة.
- كتاب من ليس له إلا راوٍ واحد.
- كتاب المخضرمين.
- كتاب أولاد الصحابة.
- كتاب أوهام المحدثين.
- كتاب الطبقات.
- كتاب أفراد الشاميين.

منهجه في الحديث:
كتب مالك (رحمه الله) كتاب الموطأ، أودعه أصول الأحكام من الصحيح المتفق عليه، ورتبه على أبواب الفقه، ثم عُني الحفاظ بمعرفة طرق الأحاديث وأسانيده المختلفة، وربما يقع إسناد الحديث من طرق متعددة عن رواة مختلفين، وقد يقع الحديث أيضًا في أبواب متعددة باختلاف المعاني التي اشتمل عليها.
وجاء محمد بن إسماعيل البخاري إمام المحدثين في عصره، فخرَّج أحاديث السنة على أبوابها في مسنده الصحيح بجميع الطرق التي للحجازيين والعراقيين والشاميين، واعتمد منها ما أجمعوا عليه دون ما اختلفوا فيه، وكرَّر الأحاديث يسوقها في كل باب بمعنى ذلك الباب الذي تضمنه الحديث، فتكررت لذلك أحاديثه حتى يقال: إنه اشتمل على تسعة آلاف حديث ومائتين، منها ثلاثة آلاف متكررة، وفرَّق الطرق والأسانيد عليها مختلفة في كل باب.
ثم جاء الإمام مسلم بن الحجاج القشيري (رحمه الله)، فألَّف مسنده الصحيح، حذا فيه حذو البخاري في نقل المجمع عليه، وحذف المتكرر منها، وجمع الطرق والأسانيد، وبوَّبه على أبواب الفقه وتراجمه، ومع ذلك فلم يستوعب الصحيح كله، وقد استدرك الناس عليه وعلى البخاري في ذلك. قال الحسين بن محمد الماسرجسي: سمعت أبي يقول: سمعت مسلمًا يقول: "صنَّفت هذا - المسند الصحيح - من ثلاثمائة ألف حديث مسموعة".

وقد استغرقت مدة تأليفه لهذا الكتاب خمسة عشر عامًا، قال أحمد بن سلمة: "كنت مع مسلم في تأليف صحيحه خمس عشرة سنة". وقد ألَّفه في بلده، كما ذكر ابن حجر في مقدمة فتح الباري حيث قال: "إن مسلمًا صنف كتابه في بلده، بحضور أصوله في حياة كثير من مشايخه، فكان يتحرز في الألفاظ، ويتحرى في السياق".

ثناء العلماء عليه:
قال أبو قريش الحافظ: سمعت محمد بن بشار يقول: "حُفَّاظ الدنيا أربعة: أبو زرعة بالري، ومسلم بنيسابور، وعبد الله الدَّارِمِي بسمرقند، ومحمد بن إسماعيل ببخارى". ونقل أبو عبد الله الحاكم أن محمد بن عبد الوهاب الفراء قال: "كان مسلم بن الحجاج من علماء الناس، ومن أوعية العلم". وقال الحافظ أبو علي النيسابوري: "ما تحت أديم السماء أصحُّ من كتاب مسلم في علم الحديث".
وقال عنه صاحب أبجد العلوم (صديق بن حسن القنوجي): "والإمام مسلم بن الحجاج القشيري البغدادي أحد الأئمة الحفاظ، وأعلم المحدثين، إمام خراسان في الحديث بعد البخاري". وقال أحمد بن سلمة: "رأيتُ أبا زرعة وأبا حاتم يقدمان (مسلمًا) في معرفة الصحيح على مشايخ عصرهما".

من كلماته الخالدة:
- قوله للإمام البخاري: "دعني أُقبِّلْ رجليك يا أستاذ الأُسْتَاذِينَ، وسيِّد المحدثين، وطبيب الحديث في علله".

وفاته:
عاش الإمام مسلم 55 سنة، وتُوفِّي ودفن في مدينة نيسابور سنةَ 261هـ/ 875م. رحمه الله رحمة واسعة، وجزاه عن المسلمين خير الجزاء.

عن موقع قصة الإسلام

المراجع:
- الذهبي: سير أعلام النبلاء.
- ابن حجر: تهذيب التهذيب.
- القنوجي: أبجد العلوم.
- عبد الرحمن السديس: التعريف بالإمام مسلم وكتابه الصحيح.


يتبع
 
التعديل الأخير:
الإمام أبو داود

100px-SunanAbiDaoud.jpg


نسبه وموطنه
هو الإمام الثبت، أبو داود، سليمان بن الأشعث بن إسحاق الأزدي السِّجِسْتَانِيُّ، أحد حفاظ الحديث وعلمه وعلله، صاحب السنن. وُلِد بسجستان سنة اثنتين ومائتين من الهجرة، وهو والد أبي بكر عبد الله بن أبي داود، من أكابر الحفاظ ببغداد، وكان عالمًا متفقًا عليه، وله كتاب (المصابيح).

تربيته وأخلاقه:
نشأ أبو داود (رحمه الله) محبًّا للعلم شغوفًا به، وكان همه منذ نعومة أظافره طلب حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وتدوينه، وقد بدت عليه أمارات النجابة منذ صباه.
ولكونه من تلامذة الإمام البخاري فقد كان له تأثير خاص فيه؛ إذ إنه أفاد منه أيَّمَا إفادة، وقد سلك في العلم سبيله، وفوق ذلك فكان يشبه الإمام أحمد بن حنبل في هَدْيه ودَلِّه وسمته. وقد قال عنه ابن خلكان: "كان في الدرجة العالية من النسك والصلاح".

شيوخه:
كغيره من علماء عصره وكسنة متبعة بين علماء الحديث، فقد طوف أبو داود البلاد، وارتحل إلى أمصار الحضارة الإسلامية في طلب الحديث ومشافهة الشيوخ والتلقي عليهم، ولقي خلال هذه الرحلات عددًا كبيرًا من كبار الحفاظ والمحدثين، فكتب عن العراقيين والخراسانيين والشاميين والمصريين، وسمع أبا عُمَر الضرير، ومسلم بن إبراهيم، وأحمد بن حنبل، وعبد الله بن مسلمة القعنبي، وعبد الله بن رجاء، وأبا الوليد الطيالسي، وأحمد بن يونس، وأبا جعفر النفيلي، وأبا توبة الحلبي، وسليمان بن حرب، وخلقًا كثيرًا بالحجاز والشام ومصر والعراق والجزيرة والثغر وخراسان.

تلاميذه:
حين وهب أبو داود حياته لعلم الحديث كان له تلاميذ كثيرون، يتعلمون منه ويروون عنه، وكان أشهر من روى عنه وتتلمذ على يده الإمام الترمذي، والإمام النسائي، وابنه الإمام أبو بكر بن أبي داود، وأبو عوانة، وأبو بشر الدولابي، وعلي بن الحسن بن العبد، وأبو أسامة محمد بن عبد الملك، وأبو سعيد بن الأعرابي، وأبو علي اللؤلُئِيُّ، وأبو بكر بن داسَةَ، وأبو سالم محمد بن سعيد الجلودي، وأبو عمرو أحمد بن علي، وغيرهم.

مؤلفاته:
كان أبو داود (رحمه الله) من المكثرين في التأليف، وخصوصًا في فنون علم الحديث روايةً ودرايةً؛ فمن مؤلفاته: دلائل النبوة، وكتاب التفرد في السنن، وكتاب المراسيل، وكتاب المسائل التي سئل عنها الإمام أحمد، وله أيضًا ناسخ القرآن ومنسوخه. وذكر الزركلي في الأعلام أن له كتاب الزهد، وقد رمز له بحرف (خ) دليل على أنه مخطوط، وذكر أنه في خزانة القرويين برقم (80/ 133) وبخط أندلسي، وذكر أيضًا أن له (البعث)، وقال إنه رسالة، ورمز له كذلك بما يشير أنه مخطوط، وأيضًا (تسمية الأخوة)، وقال إنها رسالة، ورمز لها كذلك بما يشير أنها مخطوط.

سنن أبي داود.. مكانته ومنهجه فيه:
إضافةً إلى التآليف السابقة فإن الذي ذاع صيت أبي داود وزاده شهرة هو كتابه العظيم المعروف بسنن أبي داود، وهو كتاب يأتي في المرتبة بعد صحيح البخاري وصحيح مسلم في الشهرة والمكانة، وقد عُدَّ أول كتب السنن المعروفة، وهي سنن أبي داود والترمذي والنسائي وابن ماجه.
وقد بلغت أحاديث هذا الكتاب ثمانمائة وأربعة آلاف حديث، صنفه وانتقاه من أصل خمسمائة ألف حديث؛ ولذا يُعَد الكتاب من مظانِّ الحديث الحسن. وقد رتب أبو داود كتابه على كتب وأبواب، فشمل خمسة وثلاثين كتابًا، وواحدًا وسبعين وثمانمائة وألف (1871) باب.
وفي (السنن) لم يقتصر أبو داود على الصحيح، بل خَرَّج فيه الصحيح والحسن والضعيف، وقد وضح منهجه فيه فقال: "ذكرت في كتابي الصحيح وما يشبهه وما يقاربه". وقال: "وما كان فيه وهن شديد بيَّنته، وما لم أذكر فيه شيئًا فهو صالح، وبعضها أصح من بعض".
وقد جمع أبو داود كتابه هذا قديمًا، وحين فرغ منه عرضه على الإمام أحمد بن حنبل (رحمه الله) فاستجاده واستحسنه، والفقهاء لا يتحاشون من إطلاق لفظ (الصحاح) عليها وعلى سنن الترمذي، لا سيما (سنن أبي داود). وفي مكانة هذا الكتاب فقد أبلغ زكريا الساجي حين قال: "كتاب الله أصل الإسلام، وسنن أبي داود عهد الإسلام".

شروح السنن:
وقد أقبل العلماء على كتاب سنن أبي داود بالشرح والتعليق والدراسة، فمن هذه الشروح ما يلي:
- (معالم السنن) لأبي سليمان أحمد بن محمد بن إبراهيم الخطابي، المتوفَّى سنة ثمانٍِ وثمانين وثلاثمائة من الهجرة.
- (مرقاة الصعود إلى سنن أبي داود) للحافظ جلال الدين السيوطي، المتوفَّى سنة إحدى عشرة وتسعمائة من الهجرة.
- (فتح الودود على سنن أبي داود) لأبي الحسن نور الدين بن عبد الهادي السِّندي، المتوفَّى سنة ثمانٍ وثلاثين ومائة وألف من الهجرة.
- (عون المعبود في شرح سنن أبي داود) لمحمد شمس الحق عظيم آبادي.

ثناء العلماء عليه:
حاز أبو داود على إعجاب معاصريه وثقتهم، وقد عدَّه الشيخ أبو إسحاق الشيرازي في (طبقات الفقهاء) من جملة أصحاب الإمام أحمد بن حنبل، وقال عنه إبراهيم الحربي لما صنف كتاب (السنن): "أُلِين لأبي داود الحديث، كما ألين لداود الحديد". وكذلك قال محمد بن إسحاق الصاغاني.

وقريب من ذلك أيضًا عبر الحافظ موسى بن هارون فقال: "خلق أبو داود في الدنيا للحديث، وفي الآخرة للجنة، ما رأيت أفضل منه". وأبلغ منه ما ذكره الحاكم أبو عبد الله يوم أن قال: "أبو داود إمام أهل الحديث في عصره بلا مدافعة".

وفاة أبي داود:
بعد فتنة الزنج في البصرة التمس منه أخو الخليفة أن يقيم بها لتعمر بالعلم، وقد أجاب طلبه وظل بها حتى وافته المنية، ورحل (رحمه الله تعالى) عن دار الدنيا يوم الجمعة، سادس عشر من شوال، سنة خمس وسبعين ومائتين، وصلى عليه عباس بن عبد الواحد الهاشمي.

عن موقع قصة الإسلام

المراجع:

ـ الذهبي: تذكرة الحفاظ
- الذهبي: العبر في خبر من غبر
- ابن خلكان: وفيات الأعيان
- الخطيب البغدادي: تاريخ بغداد
- حاجي خليفة: كشف الظنون
- الباباني: هدية العارفين
- ابن منظور: لسان العرب
- الزركلي: الأعلام.

يتبع
 
التعديل الأخير:
الإمام النسائي

100px-SunanAlNisaee.jpg


نسبه ومولده:
هو الإمام الحافظ الثبت، شيخ الإسلام، ناقد الحديث، أبو عبد الرحمن أحمد بن شعيب بن علي بن سنان بن بحر الخراساني النسائي، صاحب السنن. وُلد (بِنَسا) سنةَ مائتين وخمس عشرة.

شيوخه:
من شيوخه إسحاق بن راهويه، وهشام بن عمار، وسمع من قتيبة البَغْلاَنِيِّ المحدث.

من ملامح شخصيته وأخلاقه:
1- كان يحب طلب العلم والترحال من أجل تحصيله؛ فقد جال البلاد واستوطن مصر، فحسده مشايخها، فخرج إلى الرَّمْلة في فلسطين.
2- كان يجتهد فى العبادة؛ قال أبو الحسين محمد بن مظفر الحافظ: "سمعت مشايخنا بمصر يعترفون له بالتقدم والإمامة، ويصفون اجتهاده في العبادة بالليل والنهار، ومواظبته على الحج والجهاد". وقال غيره: "كان يصوم يومًا ويفطر يومًا، وكان له أربع زوجات وسُرِّيَّتان، وكان كثير الجماع، حسن الوجه، مشرق اللون". قالوا: "وكان يقسم للإماء كما يقسم للحرائر".
3- وقد قيل عنه: إنه كان يُنسب إليه شيء من التشيع. قالوا: ودخل إلى دمشق فسأله أهلها أن يحدثهم بشيء من فضائل معاوية، فقال: "أما يكفي معاوية أن يذهب رأسًا برأس حتى يُروى له فضائل؟!" فقاموا إليه فجعلوا يطعنون في حِضْنَيْهِ (الحِضْنُ: ما دون الإبط إلى الكشح)، حتى أخرج من المسجد الجامع، فسار من عندهم إلى مكة فمات بها.

مكانته العلمية:
كان من بحور العلم مع الفهم والإتقان والبصر ونقد الرجال وحسن التأليف، رحل في طلب العلم إلى خراسان والحجاز ومصر والعراق والجزيرة والشام والثغور، ثم استوطن مصر ورحل الحُفَّاظ إليه، ولم يبقَ له نظير في هذا الشأن. حدَّث عنه أبو بشر الدولابي، وأبو جعفر الطحاوي، وأبو علي النيسابوري، وغيرهم كثير.
قال الحافظ ابن طاهر: "سألت سعد بن علي الزنجاني عن رجل فوثقه، فقلت: قد ضعَّفه النسائي. فقال: يا بُني، إن لأبي عبد الرحمن شرطًا في الرجال أشد من شرط البخاري ومسلم. قلت: صَدَق؛ فإنه ليَّن جماعة من رجال صحيحي البخاري ومسلم".
قال الحاكم: "كلام النسائي على فقه الحديث كثير، ومن نظر في سننه تحيَّر في حسن كلامه". وقال ابن الأثير في أول جامع الأصول: "كان شافعيًّا، له مناسك على مذهب الشافعي، وكان ورعًا متحريًا".

مؤلَّفاته:
ترك النسائي مجموعة من الكتب، منها:
1- كتاب السنن الكبرى في الحديث. وهو الذي عُرف به، وجاء في سير أعلام النبلاء.
2- كتاب المُجتبَى، وهو السنن الصغرى، من الكتب الستة في الحديث.
3- مسند علي.
4- وله كتاب التفسير في مجلد.
5- الضعفاء والمتروكون في رجال الحديث.

درجة أحاديثه:
يقول السيوطي في مقدمة شرحه لكتاب السنن للنسائي: "كتاب السنن أقل الكتب بعد الصحيحين حديثـًا ضعيفـًا، ورجلاً مجروحـًا".
وقد اشتهر النسائي بشدة تحريه في الحديث والرجال، وأن شرطه في التوثيق شديد. وقد سار في كتابه (المُجتبى) على طريقة دقيقة تجمع بين الفقه وفن الإسناد، فقد رتَّب الأحاديث على الأبواب، ووضع لها عناوين تبلغ أحيانًا منزلة بعيدة من الدقة، وجمع أسانيد الحديث الواحد في موطن واحد.

من شروح سنن النسائي:
(زهر الرُّبى على المجتبى) لجلال الدين السيوطي المُتوفَّى سنة 911هـ، وهو بمنزلة تعليق لطيف، حلَّ فيه بعض ألفاظه، ولم يتعرض بشيء للأسانيد.
حاشية لأبي الحسن نور الدين بن عبد الهادي السِّندي، المتوفَّى سنة 1136هـ. ومن الشروح الحديثة: (ذخيرة العُقبى في شرح المجتبى) للشيخ محمد بن علي بن آدم الأثيوبي المدرس بدار الحديث الخيرية بمكة، وهو شرح مبسوط، بذل فيه المؤلف جهدًا مشكورًا في نقل الأقوال، وجمعها وترتيبها، وترجيح ما ترجح لديه منها، ويظهر فيه الاهتمام بتراجم الرجال، والعناية بالمسائل اللغوية والنحوية التي تفيد في فهم الحديث، وقد طبع الكتاب مؤخرًا في ثمانية وعشرين جزءًا.

ثناء العلماء عليه:
قال ابن كثير فى البداية والنهاية: "أحمد بن علي بن شعيب بن علي بن سنان بن بحر بن دينار، أبو عبد الرحمن النسائي، صاحب السنن، الإمام في عصره، والمقدم على أضرابه وأشكاله وفضلاء دهره، رحل إلى الآفاق، واشتغل بسماع الحديث، والاجتماع بالأئمة الحذاق". وقال الإمام الذهبي: "هو أحفظ من مسلم".
وقال ابن عدي: سمعت منصورًا الفقيه، وأحمد بن محمد بن سلامة الطحاوي يقولان: "أبو عبد الرحمن النسائي إمام من أئمة المسلمين". وقال الحافظ أبو عبد الرحمن النيسابوري: "أبو عبد الرحمن النسائي الإمام في الحديث بلا مدافعة". وقال أبو الحسن الدارقطني: "أبو عبد الرحمن مُقدَّم على كل من يذكر بهذا العلم من أهل عصره".

وفاته:
اختلف في مكان وزمان وفاته، فقيل: تُوفِّي بمكة سنة ثلاثٍ وثلاثمائة. وقيل: تُوفِّي بفلسطين سنة اثنتين وثلاثمائة.

عن موقع قصة الإسلام

المراجع:
- البداية والنهاية لابن كثير.
- الوافي بالوفَيَات للصفدي.
- سير أعلام النبلاء للذهبي.

يتبع
 
الإمام الترمذي

100px-SunanAltirmithi.jpg


مولده ونشأته:
محمد بن عيسى بن سورة بن موسى بن الضحاك. وقيل: محمد بن عيسى بن يزيد بن سورة بن السكن. وقيل: محمد بن عيسى بن سورة بن شداد بن عيسى السلميُّ الترمذيُّ الضرير. وقد وُلِد مطلع القرن الثالث الهجري في ذي الحجة سنةَ تسعٍ ومائتين من الهجرة، في قرية من قرى مدينة ترمذ تسمى (بُوغ)، بينها وبين ترمذ ستة فراسخ.
كان جَدُّه سورة مروزيًّا (نسبة إلى مرو)، ثم انتقل هذا الجد أيام الليث بن سيار إلى بوغ، أما السلمي فهو نسبة إلى بني سليم، قبيلة من غيلان.
وقد عاش الترمذي للحديث، ورحل إليه حيثما كان، فأخذ العلم وسمع من الخراسانيين والعراقيين والحجازيين, وهو تلميذ إمام المحدثين الإمام البخاري, وتأثر به أشد التأثر، ولا سيما في فقه الحديث، وناظره، وناقشه.

شيوخه:
عاش أبو عيسى لتحصيل الحديث، وشد الرحال إليه أينما كان، واشترك الترمذي مع أقرانه الخمسة أصحاب الكتب المعتمدة، وهم الإمام البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه في تلقي العلم على يد تسعة شيوخ، وهم: محمد بن بشار بن بندار، ومحمد بن المثنى، وزياد بن يحيى الحساني، وعباس بن عبد العظيم العنبري، وأبو سعيد الأشح عبد الله بن سعيد الكندي، وعمرو بن علي القلانسي، ويعقوب بن إبراهيم الدورقي، ومحمد بن معمر القيسي، ونصر بن علي الجهضمي.
ومن شيوخه أيضًا الذين أخذ عنهم العلم: الهيثم بن كليب الشاشي صاحب المسند، ومحمد بن محبوب المحبوبي راوي الجامع عنه، ومحمد بن المنذر بن شكر.

ملامح شخصيته وأخلاقه:
1- كان الإمام الترمذي يحب العلم والارتحال إليه، ومجالسة العلماء، فجاب البلاد يجلس إلى العلماء، وينهل من علومهم المتنوعة.
2- قوة الحفظ.

مؤلفاته:
1- الجامع للسنن.
2- العلل الصغرى. وهو من ضمن كتاب الجامع، فهو مدخل له وجزء منه، وبيان لمنهجه. وقد نهل العلماء والفقهاء من جامعه هذا، وذاعت شهرته به. وقد قال الترمذي عنه: "صنَّفت هذا المسند الصحيح وعرضته على علماء الحجاز فرضوا به، وعرضته على علماء العراق فرضوا به، وعرضته على علماء خراسان فرضوا به، ومن كان في بيته هذا الكتاب فكأنما في بيته نبيٌّ ينطق".
3- كتاب الشمائل المحمدية.

وهذه الكتب السابقة هي التي وصلت إلينا، أما كتبه الأخرى فقد فُقدت، وإنما ورد ذكرها في المراجع، وهي:
1- الزهد.
2- كتاب العلل الكبرى.
3- كتاب التاريخ.
4- كتاب الأسماء والكنى.

الجامع ومنهجه المتميز:
تميز جامع الترمذي بأنه وضع فيه مصنفه قواعد التحديث، وكانت في غاية الدقة، وقد جعلها تحت عنوان (كتاب العلل) بحيث أدرجت ضمن أبواب الجامع، وقد ذكر الترمذي في أول كتاب الجامع أن الذي حمله على تسطير هذا المنهج في الجامع من العناية بأقوال الفقهاء وقواعد التحديث وعلله، أنه رأى الحاجة إلى ذلك شديدة، ولأجل هذا الهدف أراد أن يسلك مسلك المتقدمين، وذلك بأن يزيد ما لم يسبقه إليه غيره ابتغاءَ ثواب الله عز وجل.
ومن مزايا الجامع وخصائصه الفريدة التي امتاز بها، أنه يحكم على درجة الحديث بالصحة والحسن والغرابة والضعف على حسب حالة الحديث؛ فيقول بعد إيراد الحديث: حسن صحيح، أو حسن صحيح غريب. وقد يقول: هذا حديث حسن غريب من حديث فلان. وهذا يعني أن الغرابة في الإسناد، وإن كان للحديث روايات أخرى ليست غريبة، فإذا لم ترد طرق أخرى يقول: غريب لا نعرفه من غير هذا الوجه. وإذا كان في الحديث علة بيَّنها، فنراه يقول: هذا الحديث مرسل؛ لأن فلانًا تابعي، فهو لم يروِ عن النبي صلى الله عليه وسلم، أو أن فلانًا لم يروِ عن فلان، إذ لم يثبت له لُقِيًّا معه.

آراء العلماء فيه:
قال أبو يعلى الخليل بن عبد الله في كتابه علوم الحديث: "محمد بن عيسى بن سورة بن شداد الحافظ متفق عليه، له كتاب في السنن، وكتاب في الجرح والتعديل، روى عنه أبو محبوب والأَجِلاَّء، وهو مشهور بالأمانة والإمامة والعلم".
وقال ابن الأثير: "كان الترمذي إمامًا حافظًا، له تصانيف حسنة، منها الجامع الكبير، وهو أحسن الكتب". وقال الإمام الذهبي: "الحافظ العالم، صاحب الجامع، ثقة، مجمع عليه". وقال عنه ابن العماد الحنبلي: "كان مُبرَّزًا على الأقران، آية في الحفظ والإتقان". وقال عنه الإمام السمعاني: "إمام عصره بلا مدافعة".

وفاته:
تُوُفِّي الإمام الترمذي (رحمه الله) ببلدته (بُوغ) في رجب سنةَ 279هـ، بعد حياة حافلة بالعلم والعمل، وقد أصبح الترمذي ضريرًا في آخر عمره، بعد أن رحل وسمع وكتب وذاكر وناظر وصنَّف.

عن موقع قصة الإسلام

المراجع:
- شذرات الذهب، ابن العماد، 2/ 174.
- البداية والنهاية، ابن كثير، ج11، ص 75.
- الوافي في الوفيات، الصفدي، ج1، ص 555 .

يتبع
 
التعديل الأخير:
الإمام إبن ماجه

100px-SIbnmaja.jpg


نسبه وموطنه
هو الإمام الحافظ الكبير أبو عبد الله محمد بن يزيد بن ماجه الربعي القَزْوِينِيُّ، وُلد بقزوين سنة تسعٍ ومائتين من الهجرة. قال ابن خَلِّكان: "ماجه بفتح الميم والجيم وبينهما ألف، وفي الآخر هاء ساكنة".

تربيته وحياته
نشأ ابن ماجه في جو علمي، ومن ثَمَّ شبَّ محبًّا للعلم الشرعي عمومًا، وعلم الحديث خصوصًا؛ فحفظ القرآن الكريم، وتردد على حلقات المحدثين التي امتلأت بها مساجد قزوين، حتى حصَّل قدرًا كبيرًا من الحديث.

وقد هاجر سنة ثلاثين ومائتين من الهجرة في طلب الحديث ومشافهة الشيوخ والتلقي عليهم، فرحل إلى خراسان، والبصرة والكوفة، وبغداد ودمشق، ومكة والمدينة، ومصر، وغيرها من الأمصار، متعرفًا على العديد من مدارس الحديث النبوي الشريف؛ إذ أتاحت له هذه الفرصة أن يلتقي بعدد من الشيوخ في كل قطر، وفي كل بلد ارتحل إليها.

شيوخه
نظرًا لكثرة أسفاره ورحلاته، فكان له شيوخ في كل قطر وكل مصر ذهب إليه، فكان من شيوخه علي بن محمد الطنافسي الحافظ، وقد أكثر عنه، وإبراهيم بن المنذر الحزامي المُتوفَّى سنة ست وثلاثين ومائتين من الهجرة، وهو تلميذ البخاري، ومحمد بن عبد الله بن نمير، وجبارة بن المغلس، وهو من قدماء شيوخه، وعبد الله بن معاوية، وهشام بن عمار، ومحمد بن رمح، وداود بن رشيد، وخلق كثير، وقد ذكرهم في سننه وتآليفه.

ثم بعد رحلة شاقة استغرقت أكثر من خمسة عشر عامًا عاد ابن ماجه إلى قزوين، واستقر بها، منصرفًا إلى التأليف والتصنيف، ورواية الحديث بعد أن طارت شهرته، وقصده الطلاب من كل مكان.

تلاميذه
لم يكن ليقتصر النشاط العلمي لابن ماجه على التأليف فقط، بل تعداه إلى التعليم وإلقاء المحاضرات والدروس, وكان أشهر من روى عنه وتتلمذ على يده علي بن سعيد بن عبد الله الغداني، وإبراهيم بن دينار الجرشي الهمداني، وأحمد بن إبراهيم القزويني جَدّ الحافظ أبي يعلى الخليلي، وأبو الطيب أحمد بن روح المشعراني، وإسحاق بن محمد القزويني، وجعفر بن إدريس، ومحمد بن عيسى الصفار، وأبو الحسن علي بن إبراهيم بن سلمة القزويني الحافظ، وغيرهم من مشاهير الرواة.

مؤلفاته
لم يخلد الزمان من كتبه غير كتابه (سنن ابن ماجه) أحد الصحاح الستة؛ فقد ضاعت مصنفاته مع ما ضاع من ذخائر تراثنا العظيم، فكان له تفسير للقرآن وصفه ابن كثير في كتابه (البداية والنهاية) بأنه "تفسير حافل"، وله أيضًا كتاب في التاريخ أرَّخ فيه من عصر الصحابة حتى عصره، وقال عنه ابن كثير بأنه "تاريخ كامل".

سنن ابن ماجه.. مكانته ومنهجه فيه
طبقت شهرة كتاب (سنن ابن ماجه) الآفاق، وبه عُرف ابن ماجه واشتهر، واحتل مكانته المعروفة بين كبار الحفاظ والمحدثين، وهو من أَجَلِّ كتبه وأعظمها وأبقاها على الزمان، وقد عُدَّ الكتاب رابع كتب السنن المعروفة، وهي سنن أبي داود والترمذي والنسائي وابن ماجه، ومتمم للكتب الستة التي تشمل إلى ما سبق صحيح البخاري ومسلم، وهي المراجع الأصول للسنة النبوية الشريفة وينابيعها.

وكان منهج ابن ماجه في كتابه هذا هو أنه رتبه على كتب وأبواب، حيث يشتمل على مقدمة وسبعة وثلاثين كتابًا، وخمسمائة وألف باب، تضم أربعة آلاف وثلاثمائة وواحدًا وأربعين حديثًا، ومن هذه الأحاديث اثنان وثلاثة آلاف حديث اشترك معه في تخريجها أصحاب الكتب الخمسة، وانفرد هو بتخريج تسعة وعشرين وثلاثمائة وألف حديثٍ، وهي الزوائد على ما جاء في الكتب الخمسة، من بينها ثمانٍ وعشرون وأربعمائة حديثًا صحيح الإسناد، وتسعة عشر ومائة حديثًا حسن الإسناد، وهذا ما أشار إليه ابن حجر بقوله: "إنه انفرد بأحاديث كثيرة صحيحة".

وقد أحسن ابن ماجه وأجاد حينما بدأه بباب اتباع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وساق فيه الأحاديث الدالة على حجية السنة، ووجوب اتباعها والعمل بها.

السنن في ميزان النقد
قال الذهبي: "سنن أبى عبد الله كتاب حسن لولا ما كَدَّرَهُ بأحاديث واهية ليست بالكثيرة". وقال الحافظ ابن حجر: "كتابه في السنن جامع جيد، كثير الأبواب والغرائب، وفيه أحاديث ضعيفة جدًّا حتى بلغني أن السَّرِيَّ كان يقول: مهما انفرد بخبر فيه هو ضعيف غالبًا. وليس الأمر في ذلك على إطلاقه باستقرائي، وفي الجملة ففيه أحاديث منكرة، والله تعالى المستعان".

شروح السنن
ولقيمة هذا الكتاب ومكانته، فقد أولاه كبار الحفاظ والمحدثين عناية خاصة، فراحوا يسهبون في شروحه ويضعون عليه من تعليقاتهم، ومن ذلك:

- (شرح سنن ابن ماجه) للحافظ علاء الدين مغلطاي، المُتوفَّى سنة اثنتين وستين وسبعمائة من الهجرة.

- (مصباح الزجاجة في شرح سنن ابن ماجه) للجلال الدين السيوطي، المتوفَّى سنة إحدى عشرة وتسعمائة من الهجرة.

- (شرح سنن ابن ماجه) للمحدث محمد بن عبد الهادي السِّندي، المتوفَّى سنة ثمانٍ وثلاثين ومائة وألف من الهجرة.

وقد أفرد زوائد السنن العلامة المحدث شهاب الدين أحمد بن زين الدين البوصيري في كتابٍ وخرَّجها، وتكلم على أسانيدها بما يليق بحالها من صحة وحسن وضعف.

آراء العلماء فيه
نال ابن ماجه إعجاب معاصريه وثقتهم؛ إذ كان معدودًا في كبار الأئمة وفحول المحدثين، فقد قال عنه ابن خَلِّكان: "كان إمامًا في الحديث، عارفًا بعلومه وجميع ما يتعلق به". وقال الذهبي عنه: "كان ابن ماجه حافظًا، ناقدًا، صادقًا، واسع العلم".

وفاته
بعد عمر حافل بالعطاء في الحديث النبوي الشريف درايةً وروايةً، دارسًا ومدرسًا ومؤلفًا، تُوفِّي ابن ماجه (رحمه الله) سنة ثلاثٍ وسبعين ومائتين من الهجرة.

عن موقع قصة الإسلام

المراجع
الذهبي: العبر في خبر من غبر - الذهبي: سير أعلام النبلاء - الذهبي: تذكرة الحفاظ - ابن خَلِّكان: وفيات الأعيان - ابن الجوزي: المنتظم - ابن حجر: تهذيب التهذيب - ابن كثير: البداية والنهاية .

يتبع
 
الإمام الحاكم


النسب والقبيلة:
هو محمد بن عبد الله بن حمدون (أو حمدويه) ابن نعيم بن الحكم الضبي النيسابوري، أبو عبد الله، الشهير بالحاكم النيسابوري، والمعروف بابن البَيِّع.

وُلِد بنيسابور سنةَ إحدى وعشرين وثلاثمائة من الهجرة، ورحل إلى العراق سنة 341هـ، وحجَّ، وجال في بلاد خراسان وما وراء النهر. وفي سنة 359 هـ وَلِي قضاء نيسابور، ولُقِّبَ بالحاكم لتولِّيه القضاء مرة بعد مرة، ثم اعتزل منصبه ليتفرغ للعلم والتصنيف. وقد تولى السفارة بين ملوك بني بويه والسامانيين، فأحسن السفارة.

شيوخه:
أول سماعه سنةَ ثلاثين وثلاثمائة، سمع الكثير، وطاف الآفاق، وصنَّف الكتب الكبار والصغار، وأخذ عن نحو ألفي شخص، ومن مشايخه الدَّارقُطْنِيُّ، وابن أبي الفوارس، وغيرهما.

مؤلفاته:

صنَّف كتبًا كثيرةً، منها:
- تاريخ نيسابور.
- المستدرك على الصحيحين. وهو الكتاب الذي جمع فيه الأحاديث التي استدركها على الصحيحين مما فاتهما على شرطه, وهو أشهر المستدركات.
- الإكليل.
- المدخل إلى علم الصحيح.
- تراجم الشيوخ.
- فضائل الشافعي.

وأفضل من صنَّف الصحابة هو الحاكم النيسابوري، فهو يرى أن الصحابة ينقسمون إلى اثنتي عشرة درجة:
1- قوم تقدم إسلامهم بمكة، كالخلفاء الأربعة.
2- الصحابة الذين أسلموا قبل تشاور أهل مكة في دار الندوة.
3- مهاجرة الحبشة.
4- أصحاب العَقَبة الأولى.
5- أصحاب العَقَبة الثانية، وأكثرهم من الأنصار.
6- أول المهاجرين الذين وصلوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم بقباء قبل أن يدخل المدينة.
7- أهل بدر.
8- الذين هاجروا بين بدر والحُديبية.
9- أهل بيعة الرضوان في الحُديبية.
10- من هاجر بين الحُديبية وفتح مكة، كخالد بن الوليد وعمرو بن العاص.
11- مُسْلِمَة الفتح الذين أسلموا بعد فتح مكة.
12- صبيان وأطفال رأوا النبي صلى الله عليه وسلم يوم الفتح وفي حجة الوداع، وغيرهما.

آراء العلماء فيه:
قال عنه الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية: "وكان من أهل العلم والحفظ والحديث... وقد كان من أهل الدين والأمانة والصيانة والضبط والتجرد والورع".

وفاته:
تُوُفِّي رحمه الله في نيسابور سنةَ 405 هـ/ 1014م، عن أربعٍ وثمانين سنة.

يتبع
 
الإمام الدارمي


اسمه ونسبه:
هو الحافظ أبو سعيد عثمان بن سعيد بن خالد بن سعيد التميمي، الدَّارِمي، السِّجِسْتانِيُّ. ولد في مدينة هراة بخراسان سنةَ 200 هـ/ 815 م.

شيوخه:
أبو اليمان، ويحيى بن صالح الوحاظي، وسعيد بن أبي مريم، ومسلم بن إبراهيم، وعبد الغفار بن داود الحراني، وسليمان بن حرب، وأبو سلمة التبوذكي، ونعيم بن حماد، وعبد الله بن صالح، كاتب الليث، ومحمد بن كثير، ومسدد بن مسرهد، وأبو توبة الحلبي، وعبد الله بن رجاء الغداني، وأبو جعفر النفيلي، وأحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، وعلي بن المديني، وإسحاق بن راهويه، وفروة بن المغراء، وأبو بكر بن أبي شيبة، ويحيى الحماني، وسهل بن بكار، وأبو الربيع الزهراني، ومحمد بن المنهال، والهيثم بن خارجة، وخلق كثير بالحرمين، والشام، ومصر، والعراق، والجزيرة، وبلاد العجم.

تلاميذه:
أبو عمرو: أحمد بن محمد الحيري، ومحمد بن إبراهيم الصرام، ومؤمل بن الحسين، وأحمد بن محمد بن الأزهر، ومحمد بن يوسف الهروي، وأبو إسحاق بن ياسين، ومحمد بن إسحاق الهروي، وأحمد بن محمد بن عبدوس الطرائفي، وأبو النضر محمد بن محمد الطوسي الفقيه، وحامد الرفاء، وأحمد بن محمد العنبري، وأبو الفضل يعقوب القراب، وخلق كثير من أهل هراة، وأهل نيسابور.

مؤلفاته:
- المسند الكبير.
- الرد على الجهمية.
- كتاب في الرد على بشر المريسي.

من كلماته الخالدة:
- "من لم يجمع حديث شعبة، وسفيان، ومالك، وحماد بن زيد، وسفيان بن عيينة، فهو مفلس في الحديث" يريد أنه ما بلغ درجة الحُفَّاظ.

ثناء العلماء عليه:
قال عنه الذهبي: "فاق أهل زمانه، وكان لهجًا بالسنة، بصيرًا بالمناظرة".
وقال أبو حامد الأعمشِيُّ: "ما رأيت في المحدثين مثل محمد بن يحيى، وعثمان بن سعيد، ويعقوب الفسوي".
وقال أبو الفضل الجارودي: "كان عثمان بن سعيد إمامًا يُقتدى به في حياته، وبعد مماته".
وقال الحسن بن صاحب الشاشي: سألت أبا داود السجستاني عن عثمان بن سعيد، فقال: "منه تعلمنا الحديث".

وفاته:
عاش الإمام الدَّارِمي ثمانين سنة، وتُوفِّي (رحمه الله) سنةَ 280 هـ/ 894 م. رحمه الله رحمةً واسعة، وأسكنه فسيح جناته.

عن موقع قصة الإسلام

المراجع:
- سير أعلام النبلاء للذهبي.
- معجم البلدان لياقوت الحموي.

يتبع
 
الإمام البيهقي


المولد
هو أبو بكر أحمد بن الحسين بن علي بن عبد الله بن موسى البيهقي الخرساني. وُلِد الإمام البيهقي بخُسْرَوْجِرد - وهي قرية من قرى بيهق بنيسابور - في شهر شعبان عام 384 هـ، فقد كانت نيسابور تزخر بحركة علمية واسعة، وقد فتحت أيام الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه وأرضاه.

طفولته
نشأ الإمام البيهقي نشأة علمية مبكرة في نيسابور، وقد ساهمت هذه النشأة العلمية المبكرة في تكوين البيهقي وإنضاجه، وتزامن معها تلمذته على كبار رجال عصره من المحدثين والفقهاء، الذين كانت تمتلأ بهم نيسابور.

رحلاته في طلب العلوم
اتخذ الإمام البيهقي مدينة بيهق منطلقًا لرحلاته العلمية الواسعة في المدن المتاخمة لها أولاً، وهذه الرحلات هي التي ساهمت في تكوينه العلمي، وأثرت حصيلته من المادة العلمية والفقهية، وعلى رأسها المرويات الحديثية.

وهذه هي المدن والبلاد التي رحل إليها البيهقي (رحمه الله) لطلب العلم:
1- نيسابور. 2- أستراباذ. 3- أسد آباد. 4- أسفرايين. 5-خراسان. 6- الدامغان. 7- الطابران. 8- طوس. 9- قرمين. 10-مهرجان. 11- نوقان. 12 - همدان. 13- بغداد. 14- الكوفة. 15- شط العرب. 16- الري. 17- مكة المكرمة. 18 - المدينة المنورة. 19- عودته إلى بلده بيهق.

آراء العلماء فيه
لقد تبوأ الإمام البيهقي قبل وفاته بعشرين عامًا مكانة علمية مرموقة، فكان يعتبر إمام المحدثين، ورأس الحفاظ في ذلك الوقت. وصفه الإمام الجويني قائلاً: "ما من فقيه شافعي إلا وللشافعي عليه مِنَّة إلا أبا بكر البيهقي، فإن المنة له على الشافعي لتصانيفه في نصرة مذهبه".
وقد وصفه الإمام عبد الغافر الفارسي في تاريخه: "واحد زمانه في الحفظ، وفرد أقرانه في الإتقان والضبط".
وقال الإمام السبكي: "فقد كان الإمام البيهقي (رحمه الله) عالمًا عاملاً، ذا سعة وإحاطة بالعلوم الشرعية؛ فإنه أنفق شطر عمره في جمعها وتحصيلها، وأنفق الشطر الآخر منه في تنظيمها وتصنيفها، فأخرج للناس هذه المصنفات الجليلة، والتي بلغت الخمسين مصنفًا في فنون لم يسبق إليها".

شيوخ البيهقي
لقد كان شيوخ البيهقي من الكثرة بمكان، ويرجع ذلك إلى تبكير الإمام البيهقي في طلب العلم، وقيامه بالتطواف على العلماء، وهو في الخامسة عشرة من عمره؛ وقد تحدث السبكي عن شيوخ البيهقي، فقال: "أكثر من مائة شيخ".

ومن شيوخ البيهقي:
1- أبو عبد الله الحاكم النيسابوري (ت 405هـ).
2- أبو الفتح المروزي الشافعي.
3- عبد القاهر البغدادي.
4- أبو سعيد بن الفضل الصيرفي.
وهناك الكثير من الشيوخ الذين نهل منهم البيهقي، وأخذ منهم، واستفاد من صحبتهم.

تلاميذه
لا شك أن تكوين الرجال لا يقل أهمية عن تأليف التصانيف، وتسويد الصحف، وتلاميذ البيهقي امتداد لعلمه ومنهجه، وأثر بارز من آثاره العلمية، والإمام البيهقي بما تبوأ من المكانة الجليلة في الحديث، والفقه، والأصول، والعقائد صار قبلة للطلاب، وهدفًا لرحلاتهم، واهتماماتهم؛ ليظفروا بالسماع منه، والتلقي عنه، فإن البيهقي (رحمه الله) كان محدث زمانه، وشيخ السنة في وقته، وأوحد زمانه في الحفظ والإتقان. وقد عمَّر البيهقي طويلاً، مما مكن عددًا كبيرًا من طلاب العلم وأهله للاستفادة منه.

ومن تلاميذه:
1- الإمام أبو عبد الله الفراوي النيسابوري الشافعي (ت 530 هـ).
2- الإمام أبو المعالي محمد بن إسماعيل الفارسي ثم النيسابوري.

صفات البيهقي
كان الإمام البيهقي على سيرة العلماء الربانيين، يتصف بالزهد والتقلل من الدنيا والقنوع باليسير، كثير العبادة والورع، قانتًا لله. كما كان يتصف بما وصف به أهل نيسابور عمومًا من أنهم كانوا أهل رئاسة، وسياسة، وحسن ملكة، ووضع الأشياء في مواضعها؛ وهي صفات جليلة تتصل بنضج العقل، وصفاء القريحة، وقوة الفكر والتدبير.

مؤلفات البيهقي
1- (السنن الكبرى): وهو من أعظم مؤلفات البيهقي، والذي احتل مكانة مرموقة بين المصنفات في الحديث الشريف، فقد أقبل العديد من العلماء الكبار على سماع هذا الكتاب وإسماعه لأهل العلم، وقد أثنى العلماء عليه، وقد جعله ابن الصلاح (ت 643 هـ) سادس الكتب الستة في القيمة والأهمية بعد البخاري، ومسلم، وسنن أبي داود، وسنن النسائي، وكتاب الترمذي. وقال الإمام السبكي (ت 771 هـ) مشيدًا بسنن البيهقي : "أما السنن الكبير فما صنف في علم الحديث مثله تهذيبًا، وترتيبًا، وجودةً".

أما باقي مؤلفات الإمام البيهقي فهي كثيرة وعظيمة المنافع، منها:
1- أحكام القرآن. وقد جمع البيهقي فيه أقوال الشافعي في بيان آيات الأحكام.
2- أحاديث الشافعي.
3- الألف مسألة.
4- بيان خطأ من أخطأ على الشافعي.
5- تخريج أحاديث الأم (كتاب الأم للشافعي).
6- معالم السنن.
7- معرفة السنن والآثار.
8- العقائد.
9- إثبات عذاب القبر.
10- القراءة خلف الإمام.
11- فضائل الصحابة.
وغير ذلك من المؤلفات العديدة، والكثيرة.

وفاة البيهقي
وبعد حياة حافلة بالتطواف والطلب في جمع العلم وتحصيله، والهمة في بثِّه وتعليمه، والاعتكاف على تدوينه وتصنيفه، أصاب البيهقي المرض في رحلته الأخيرة إلى نيسابور، وحضرته المنية، فتُوفِّي في العاشر من جمادى الأولى سنة 458 هـ، وله من العمر أربع وسبعون سنة، فغسلوه وكفنوه، وعملوا له تابوتًا، ثم نقلوه إلى مدينة بيهق. رحم الله البيهقي رحمة واسعة، ورافق نبيه في أعالي الجنان.

عن موقع قصة الإسلام

المراجع
ـ ابن كثير: البداية والنهاية
ـ الصفدي: الوافي في الوفيات
ـ نجم عبد الرحمن: الإمام البيهقي
ـ ياقوت الحموي: معجم البلدان.

يتبع
 
الإمام النووي


نسبه ونشأته
هو الإمام الحافظ شيخ الإسلام محيي الدين أبو زكريا يحيى بن شرف النووي، نسبة إلى نَوَى، وهي قرية من قرى حَوْران في سورية. وهو صاحب أشهر ثلاثة كتب لا يكاد بيت مسلم يخلو منها، وهي: الأربعون النووية، والأذكار، ورياض الصالحين.

ولد النووي (رحمه الله) في محرم عام 631 هـ في قرية نَوَى من أبوين صالحين، ولما بلغ العاشرة من عمره بدأ في حفظ القرآن وقراءة الفقه على بعض أهل العلم هناك. وصادف أن مرَّ بتلك القرية الشيخ ياسين بن يوسف المراكشي، فرأى الصبيانَ يُكرِهونه على اللعب، وهو يهربُ منهم ويبكي لإِكراههم، ويقرأ القرآن، فذهب إلى والده ونصحَه أن يفرِّغه لطلب العلم، فاستجاب له. وفي سنة 649 هـ قَدِمَ مع أبيه إلى دمشق لاستكمال تحصيله العلمي في مدرسة دار الحديث، وسكنَ المدرسة الرَّواحِيَّة، وهي ملاصقة للمسجد الأموي. وفي عام 651 هـ حجَّ مع أبيه، ثم رجع إلى دمشق، وهناك أكبَّ على علمائها ينهل منهم.

أخلاقه وصفاته
أجمعَ أصحابُ كتب التراجم أن النووي كان رأسًا في الزهد، وقدوة في الورع، وعديم النظير في مناصحة الحكام، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ومن أهمِّ صفاته الزهد والورع، فيُروى أنه سُئلَ: لِمَ لمْ تتزوَّج؟ فقال: "نَسيتُ"؛ وذلك لاشتغاله العظيم بتحصيل العلم ونشره.

وفي حياته أمثلة كثيرة تدلُّ على ورعٍ شديد، فكان لا يقبل من أحدٍ هديةً ولا عطيَّةً، وكان لا يقبل إلا من والديه وأقاربه، فكانت أُمُّه ترسل إليه القميص ونحوه ليلبسه، وكان أبوه يُرسل إليه ما يأكله، وكان ينام في غرفته التي سكن فيها يوم نزل دمشق في المدرسة الرَّواحية، ولم يكن يبتغي وراء ذلك شيئًا.
وكان الإمام النووي لا يأكل في اليوم والليلة إلا أكلة واحدة بعد العشاء الآخرة، ولا يشرب إلا شربة واحدة عند السحر، وكان لا يشرب الماء المُبرَّد.

شيوخه
سمع أبا الفرج عبد الرحمن بن أبي عمر، ومحمد بن أحمد المقدسي، وهو أجلُّ شيوخه، وأبا إسماعيل بن أبي إسحاق إبراهيم بن أبي اليسر، وأبا العباس أحمد بن عبد الدائم، وأبا البقاء خالد النابلسي، وأبا محمد عبد العزيز بن عبد الله محمد بن عبد المحسن الأنصاري، والضياء بن تمام الحيصي، والحافظ أبا الفضل محمد بن محمد البكري، وأبا الفضائل عبد الكريم بن عبد الصمد خطيب دمشق، وأبا محمد عبد الرحمن بن سالم بن يحيى الأنباري، وأبا زكريا يحيى بن الفتح الصيرفي الحراني، وأبا إسحاق إبراهيم بن علي بن أحمد بن فاضل الواسطي، وغيرهم.

مؤلفاته
صنَّف الإمام النووي (رحمه الله) كتبًا في الحديث والفقه عمَّ النفع بها، وانتشر في أقطار الأرض ذكرها؛ منها:
المنهاج في الفقه، وشرح مسلم، ومنها المبهمات، ورياض الصالحين، والأذكار، وكتاب الأربعين، والتيسير في مختصر الإرشاد في علوم الحديث. ومنها الإرشاد، ومنها : التحرير في ألفاظ التنبيه، والعمدة في صحيح التنبيه، والإيضاح في المناسك، والإيجاز في المناسك،
ومنها : التبيان في آداب حملة القرآن ومختصره، ومنها مسألة الغنيمة، وكتاب القيام،
ومنها : كتاب الفتاوى، ومنها الروضة في مختصر شرح الرافعي، وقطعة في شرح التنبيه، وقطعة في شرح البخاري، وقطعة يسيرة في شرح سنن أبي داود، وقطعة في الإسناد على حديث الأعمال والنيات، وقطعة في الأحكام، وقطعة كبيرة في التهذيب للأسماء واللغات، وقطعة مسودة في طبقات الفقهاء،
ومنها : قطعة في التحقيق في الفقه إلى باب صلاة المسافر، ومسودات كثيرة.

آراء العلماء فيه
قال عنه الإمام الذهبي: "الشيخ الإمام القدوة، الحافظ الزاهد، العابد الفقيه، المجتهد الرباني، شيخ الإسلام، حسنة الأنام".
وقال الإمام ابن كثير: "الشيخ الإمام، العلامة الحافظ، الفقيه النبيل، محرر المذهب ومذهبه، وضابطه ومرتبه، أحد العباد والعلماء الزهاد، كان على جانب كبير من العلم والعمل والزهد والتقشف، والاقتصاد في العيش والصبر على خشونته، والتورع الذي لم يبلغنا عن أحد في زمانه ولا قبله بدهر طويل".
وقال في حقِّه الإمام العلامة محمد بن علاَّن الصديقي: "شيخ الإسلام، علم الأئمة الأعلام، أوحد العلماء العاملين، والأولياء الصالحين، عين المحققين، وملاذ الفقهاء والمحدثين، وشيخ الحفاظ، وإمام الحفاظ، وإمام أرباب الضبط المتقنين".

وفاته
تُوُفِّي الإمام النووي (رحمه الله) بِنَوَى في 24 من رجب سنةَ 676هـ، ولما بلغ نعيه إلى دمشق ارتجَّت هي وما حولها بالبكاء، وتأسَّف عليه المسلمون أسفًا شديدًا.

عن موقع قصة الإسلام

المراجع
- انظر: تحفة الطالبين في ترجمة الإمام النووي لابن العطـَّار.
- المنهل العذب الروي في ترجمة قطب الأولياء النووي للسخاوي.

يتبع
 
الإمام عبد الرَّزَّاق


نسبه ومولده:
عبد الرَّزَّاق بن همام بن نافع الصنعانيُّ الحميريُّ اليمنيُّ، الإمام العلاَّمة، المحقق المدقق الفهامة، العَلَم الراسخ، والطَّود الشامخ. وُلِد سنة ستٍّ وعشرين ومائة بعد الهجرة.

شيوخه:
حدَّث عن هشام بن حسان، وعبيد الله بن عمر، وأخيه عبد الله، وابن جريج، ومعمر، فأكثر عنه، وحجاج بن أرطاة، وعبد الملك بن أبي سليمان، والمثنى بن الصباح، وعمر بن ذر، ومحمد بن راشد، وزكريا بن إسحاق، وعكرمة بن عمار، وعبد الله بن سعيد بن أبي هند، وثور بن يزيد، وأيمن بن نابل، والأوزاعي، وسعيد بن عبد العزيز، وسفيان الثوري، وإسرائيل بن يونس، ومالك بن أنس، ووالده همام، وخلق سواهم.

تلامذته:
حدَّث عنه شيخه سفيان بن عيينة، ومعتمر بن سليمان، وأبو أسامة، وطائفة من أقرانه، وأحمد بن حنبل، وابن راهويه، ويحيى بن معين، وعلي بن المديني، وإسحاق الكوسج، ومحمد بن يحيى، ومحمد بن رافع، وعبد بن حميد، ويحيى بن جعفر البِيكَنْدِيُّ، ويحيى بن موسى خَتٌّ، والحسن بن أبي الربيع، وأحمد بن منصور الرمادي، وأحمد بن يوسف السلمي، وأحمد بن الأزهر، وسلمة بن شبيب، وإسحاق بن إبراهيم الدبري، وإبراهيم بن سويد الشبامي، والحسن بن عبد الأعلى البوسي، وإبراهيم بن محمد بن برة الصنعاني، وأحمد بن صالح المصري، وحجاج بن الشاعر، ومحمد بن حماد الطهراني، ومُؤمِّل بن إهاب.

ملامح شخصيته:
كان (رحمه الله) من العُبَّاد الصالحين، والعلماء العارفين، عاش حياة عبادة وصلاح وزهد، وكان محبًّا للعلماء وطلاَّب العلم. عن سلمة بن شبيب قال: سمعت عبد الرزاق يقول: "أخزى الله سلعة لا تنفق إلا بعد الكبر والضعف، حتى إذا بلغ أحدهم مائة سنة، كتب عنه، فإما أن يقال: كذَّاب؛ فيبطلون علمه، وإما أن يقال: مبتدع؛ فيبطلون علمه، فما أقل من ينجو من ذلك!".

الرد على من يتهمونه بالتشيع:
اتُّهم عبد الرزاق بأن فيه بعض التشيع، وأنه يفضل عليًّا على الشيخين، وذكره أبو أحمد بن عدي في (كامله)، فقال: "نسبوه إلى التشيع، ولكن اعتقاده وكلامه يخالف هذا الزعم". قال سلمة بن شبيب: سمعت عبد الرزاق يقول: "والله ما انشرح صدري قَطُّ أن أفضل عليًّا على أبي بكر وعمر". وقال أحمد بن الأزهر: سمعت عبد الرزاق يقول: "أُفضِّل الشيخين بتفضيل عليٍّ إياهما على نفسه، ولو لم يفضلهما لم أفضلهما، كفى بي إزراءً أن أحبَّ عليًّا ثم أخالف قوله".

آراء العلماء فيه:
قال أحمد بن صالح المصري: "قلت لأحمد بن حنبل: رأيت أحدًا أحسن حديثًا من عبد الرزاق؟ قال: لا".
وقال أبو زرعة الدمشقي: "عبد الرزاق أحد من ثبت حديثه، وكان يحفظ نحوًا من سبعة عشر ألف حديث".
وقال يحيى بن معين: "لو ارتدَّ ما تركنا حديثه".

مؤلفاته:
1- الجامع الكبير.
2- السنن.
3- تفسير القرآن.
4- المُصنَّف. وقد جاء المصنف في أحد وثلاثين بابًا، أولها كتاب الحيض، وآخرها كتاب البيوع، وهو في أحد عشر جزءًا.

وفاته:
تُوُفِّي عبد الرَّزَّاق بن همام الصنعاني باليمن سنةَ إحدى عشرة ومائتين من الهجرة.

عن موقع قصة الإسلام

المراجع:
- تاريخ الإسلام للذهبي، ج1، ص 1594
- كتاب أعلام الفقهاء، ص 208
- الوافي في الوفيات، ج1، ص 2650

يتبع
 
الإمام الدارقطني


اسمه ونسبه
أبو الحسن علي بن عمر بن أحمد بن مهدي البغدادي الدَّارقطنيُّ. والدارقطني نسبة إلى دار القطن، وهي محلَّة ببغداد. وُلِد الدارقطني سنة ست وثلاثمائة.

حبه للعلم وسعة علمه
كان الدارقطني رحمه الله يحب العلماء والإقبال عليهم وملازمتهم، ومن هؤلاء العلماء أبو محمد الحسن بن أحمد بن صالح الهمداني السَّبيعي الحلبي، وكان حافظًا متقنًا، سمع وروى عنه الدَّارقطني، وكان وجيهًا عند سيف الدولة، وكان يزوره في داره. وكان الحافظ أبو محمد هذا قد طاف الدنيا وهو عسر الرواية، وكان الدارقطني يجلس بين يديه كجلوس الصبيِّ بين يدي معلِّمه هيبةً له؛ وقال: قدم علينا حلب الوزير جعفر بن الفضل، فتلقاه الناس وكنت فيهم، فعرف أني من أصحاب الحديث، فقال: أتعرف حديثًا فيه إسناد أربعة من الصحابة كل واحدٍ عن صاحبه؟ فقلت: نعم، حديث السَّايب بن يزيد، عن حويطب بن عبد العزَّى، عن عبد الله بن السَّعدي، عن عمر بن الخطاب في العمالة. فعرف صحة قولي فأكرمني.

شيوخه وتلاميذه
سمع الدارقطني من أبي القاسم البغوي، وخلقٍ كثير ببغداد والكوفة والبصرة وواسط. وأخذ العلم عن الدَّارقطني محمدُ بن الحسن الشيباني، وصعصعة بن سلام، وأبو معاوية الضرير، وغيرهم.

آراء العلماء فيه
قال الحاكم أبو عبد الله النيسابوري: "لم يرَ الدارقطني مثل نفسه".
وقال ابن الجوزي: "وقد اجتمع له مع معرفة الحديث العلمُ بالقراءات والنحو والفقه والشعر مع الإمامة والعداله وصحة العقيدة".
وقال ابن كثير: "الحافظ الكبير أستاذ هذه الصناعة وقبله بمدة وبعده إلى زماننا هذا، سمع الكثير وجمع وصنَّف وألَّف وأجاد وأفاد، وأحسن النظر والتعليل والانتقاد والاعتقاد، وكان فريدَ عصره، ونسيجَ وَحْدِهِ، وإمام دهره في أسماء الرجال وصناعة التعليل والجرح والتعديل، وحسن التصنيف والتأليف واتساع الرواية والاطِّلاع التام في الدراية".
وقال عبد الغني بن سعيد الضرير: "لم يتكلم على الأحاديث مثل علي بن المديني في زمانه، وموسى بن هارون في زمانه، والدارقطني في زمانه".
وقال أبو عبد الرحمن السلمي فيما نقله عنه الحاكم: "شهدت بالله إن شيخنا الدارقطني لم يخلف على أديم الأرض مثله في معرفة حديث رسول الله ، وكذلك الصحابة وأتباعهم".

مؤلفاته
ومن مؤلَّفاته الكثيرة النافعة:
1- كتاب السنن.
2- العلل الواردة في الأحاديث النبوية.
3- المُجتبى من السنن المأثورة.
4- المختلف والمؤتلف في أسماء الرجال.
5- كتاب الأفراد.
6- سؤالات الحاكم. وهو كتاب عمدة في الجرح والتعديل.

وفاته
تُوفِّي الدارقطني سنةَ خمسٍ وثمانين وثلاثمائة، بعد حياة حافلة بالجِدِّ والحرص على تلقي العلوم ونشرها، وله من العمر سبع وسبعون سنة.

عن موقع قصة الإسلام

المراجع
- الوافي في الوفيات، ج1، ص1613.
- شذرات الذهب، ابن العماد، ج3، ص116.
- تذكرة الحفاظ، الذهبي، ج3، ص186.
- البداية والنهاية، ج11، ص345.
- أعلام الفقهاء، يحيى مراد، ص109.

يتبع
 
يحيى بن صاعد



هو يحيى بن محمد بن صاعد بن كاتب البغدادي الهاشمي, أبو محمد الحافظ محدث العراق, عالم بالعلل والرجال.

ولد:
سنة ثمان وعشرين ومائتين هـ ,
رحل إلى الشام ومصر والعراق والحجاز.

سمع من :
يحيى بن سليمان بن نضلة, وأحمد بن منيع, ويعقوب الدورقي, ومحمد بن بشار, والحسن بن عرفة, وسفيان بن وكيع, وعمر بن شبة, وعبد الجبار بن العلاء العطار, وعبد الله بن شبيب الربعي, والزبير بن بكار, وخلقا كثيراً.

حدث عنه:
أبو القاسم البغوي, والشافعي, والطبراني, وابن عدي, والإسماعيلي, وأبو طاهر المخلص, وعيسى بن الزبير, وأبو مسلم الكاتب, وغيرهم كثير.
قال أبو عبد الرحمن السلمي: سألت الدارقطني عن يحيى بن محمد بن صاعد, فقال: ثقة ثبت حافظ.
له تصانيف في السنن مرتبة على الأحكام.

توفي:
رحمه الله تعالى في الكوفة سنة ثمان عشرة وثلاث مائة هـ .

المصادر:
سير أعلام النبلاء 14/501- 507
تاريخ بغداد 14/231-234
البداية والنهاية 11/166

منقول
 
الشيخ أحمد شاكر

كتبه/ محمد سرحان



الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد،
فهو أحمد بن محمد شاكر بن أحمد بن عبد القادر. لقبه أبوه شمس الأئمة، وكناه بأبي الأشبال. ولد بعد فجر يوم الجمعة التاسع والعشرين من شهر جمادى الآخرة ســ1309ــنـة هـ الموافق 29 يناير 1892م بمنزل والده بالقاهرة بدرب الأُنسية بالدرب الأحمر، وهو من آل أبي علياء بجرجا محافظة سوهاج بصعيد مصر، ينتهي نسبه إلى الحسين بن علي بن أبي طالب -رضي الله عنهما- ثم ارتحل وهو في الثامنة من عمره مع والده إلى السودان حيث كان قد عين قاضيا فيها.
درس الشيخ أحمد شاكر في السودان بكلية غوردن، ثم بعد رجوعه إلى مصر درس في المعهد الديني بالإسكندرية، ثم التحق بالأزهر في القاهرة الذي صار والده وكيلا لمشيخته ســ1328ـنــة هـ.

وانتقال الشيخ للأزهر كان بداية عهد جديد في حياته؛ فقد استطاع أن يتصل بكثير من العلماء وطلبة العلم الموجودين في القاهرة، ثم بدأ يتنقل في مكتبات القاهرة ويستفيد من العلماء ويكثر المطالعة. وقد حاز على الشهادة العالمية من الأزهر سـ 1336ــنـة هـ الموافق 1917م، وعمل في التدريس لمدة أربعة أشهر فقط، ثم عمل في سلك القضاء حيث عين عضوا بالمحكمة الشرعية العليا حتى أحيل إلى التقاعد سـ1371ــنـة هـ الموافق 1951م، ولم ينقطع خلال فترة اشتغاله بالقضاء عن المطالعة والتصنيف، بل أثرى المكتبة الإسلامية بأبحاثه القيمة وتحقيقه لأمهات الكتب المفيدة.

طلبه للعلم:
تفقه في بداية طلبه للعلم على مذهب أبي حنيفة، وقرأ على والده كتاب الهداية في الفقه الحنفي، ونال العالمية حنفيا، وكذلك حين كان قاضيا كان يفتي بما يراه من المذهب الحنفي.
وفي ســ1328ــنــة هـ بدأ بقراءة السنة قراءة جادة استفرغت عليه جهده ووقته، وكان من أثر عكوفه على دراسة السنة رفضه التقيد بمذهب معين من غير نظر في الأقوال والأدلة.
قال -رحمه الله-: "فسمعت كثيرا، وقرأت كثيرا، ودرست أخبار العلماء والأئمة، ونظرت في أقوالهم وأدلتهم، ولم أتعصب لواحد منهم، ولم أحِدْ عن سُنة الحق فيما بدا لي، فإن أخطأت فكما يخطئ الرجل، وإن أصبت فكما يصيب الرجل. أحترم رأيي ورأي غيري، وأحترم ما أعتقده حقا قبل كل شيء وفوق كل شيء".
ولكنه مع رفضه للتقليد المذهبي المذموم كان يبدي إعجابا بالإمام الشافعي ومذهبه، ويقول: إنه لم يوجد في علماء المسلمين مثله، ولو جاز أن يُقلـَّدَ رجلٌ لقـُلـِّدَ الشافعي.
أما طلبه للحديث فقد كان في سن مبكرة، بدأ في الثامنة عشر من عمره بتوجيه من والده لما رأى نبوغه فيه.

عقيدته السلفية:
كتب الشيخ أحمد شاكر -رحمه الله- في 8 شوال سنة 1374هـ قبل موته بثلاث سنوات إلى صديق عمره الشيخ محمد حامد الفقي -رحمه الله- كتاباً جاء فيه:
"تزاملنا وتآخينا منذ أكثر من خمس وأربعين سنة لله وفي سبيل الله، نصدر عن رأي واحد وعقيدة سليمة صافية في الاستمساك بكتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، لا نحيد عنها ما استطعنا. وفي نصرة العقيدة السلفية والذب عنها ما وسعنا ذلك، لم يصرفنا عما قمنا له وبه، واضطلعنا بالذب عنه ما لقينا، وما نلقى من أذى أو عنت، ولعلنا -فيما قمنا به معا- من أول العاملين على نشر العقيدة الصحيحة في بلادنا هذه، وما أريد أن أفخر بعملي ولا بعملك فما كنا نعمل إلا لله، وكان من أعظم المصادر العلمية التي استضأنا بنورها -بعد الكتاب الكريم والسنة المطهرة- كتب شيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه الإمام الحافظ ابن القيم، ثم كتب شيخ الإسلام (مجدد القرن الثاني عشر) محمد بن عبد الوهاب -رحمهم الله-".أ.هـ.
وتظهر عقيدته السلفية ومنهجه جلية من خلال مقالاته وكتبه التي ألفها، والكتب التي قام بتحقيقها أو تصحيحها أو التعليق عليها، وكلها كتب لأئمة من أئمة أهل السنة والجماعة ليس لمبتدع فيها كتاب.

مكانته في علم الحديث:
قال أخوه العلامة أبو فهر محمود شاكر: "وهو أحد الأفذاذ القلائل الذين درسوا الحديث النبوي في زماننا دراسة وافية قائمة على الأصول التي اشتهر بها أئمة هذا العلم في القرون الأولى، وكان له اجتهاد عُرف به في جرح الرجال وتعديلهم...".أ.هـ.
حتى قيل: لم يخلف مثله في علم الحديث بمصر. وهذه الشهادة جاءت على ألسنة كثير من العلماء والدعاة المعاصرين،
وكان الشيخ الألباني يقول عنه: إنه إمام وأستاذ محدثي العصر.

من جهوده -رحمه الله-:
عاش الشيخ في فترة امتازت بكثرة الأحداث وتواليها، والدول الإسلامية تئن تحت نير الاستعمار الإنجليزي أو الفرنسي أو غيرهما مع ضعف المسلمين، وشعورهم بالانهزامية والصغار أمام هجمات الصليبيين وتلامذتهم من المستشرقين الفكرية، وطعنهم في الدين، واليهود يسيرون كل يوم خطوة لامتلاك فلسطين، وإقامة دولتهم، وأحكام الشريعة أقصيت عن حياة الناس، وصار التدين والتمسك بالإسلام رجعية وتخلفاً، ووصمة عار.
فهيأ اللهُ الشيخَ وأمثالَه ليذود عن حياض الأمة، ويدافع عن شرفها وعزتها، فانبرى للتصدي لكل الأفكار الهدامة متمسكا بكتاب الله -تعالى-، وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، ملتزما بعقيدة السلف، يقارع الأعداء وتلامذة الغرب من المستشرقين، دون أن تلين له قناة، أو تخور له عزيمة في قلة من أمثاله من الرجال في ذلك الزمان وصار يدبج ببراعة مقالات نفيسة، وتعليقات مفيدة على ما حققه من كتب وتعليقاته لا تزال مصدرا هاما لمن جاء بعده.
ومن اطلع على كتاب "كلمة حق" يعلم مدى دفاع الشيخ عن هذا الدين الحنيف، وتصديه للمبتدعين والخرافيين والمستشرقين وغيرهم، وخاصة مقالات: "أيتها الأمم المستعبدة"، و"بيان إلى الأمة المصرية خاصة وإلى الأمم العربية الإسلامية عامة"، و"تحية المؤتمر العربي في قضية فلسطين" يلاحظ مواقفه الحازمة، وبغضه لأعداء الله، وتحريض الأمة على جهاد المستعمر الذي نهب خيرات البلاد، ونشر في الأمة الفساد.
وكان -رحمه الله- من طلائع العلماء الذين انضموا لجماعة أنصار السنة المحمدية مع مؤسسها الشيخ محمد حامد الفقي -رحمه الله-.
وكان يكتب بانتظام في مجلة الهدي النبوي (التي صار رئيس تحريرها)، وكوَّن مع إخوانه من أهل العلم أمثال الشيخ الفقي، ومحب الدين الخطيب، وصادق عرنوس وغيرهم جبهة لنشر التوحيد بين أهل مصر وقتها.
وكان ممن تكلم عن تحكيم الشريعة ووجوب تطبيقها في حياة المسلمين. وأثار الشيخ كثيرا من القضايا والمستجدات على الأمة، ووضح أن الحل لها هو تطبيق الشريعة والتمسك بهذا الدين.
وكان مما اعتنى به خصوصية الإسلام، وتميزه عن غيره من الحضارات. وحذر من خطورة التقليد الأعمى للغرب.
وكان -رحمه الله- من أكثر المتصدين لمحاولات العلمانيين لتغريب بلاد المسلمين، وحذر من محاولات الاختراق الغربي لمدارس المسلمين، وكشف حقيقة بعض المؤسسات المشبوهة، وكونها تحارب الإسلام، وكان ممن أثار العديد من القضايا العامة المتعلقة بمصير الأمة، فكان بذلك من العالمين بأدواء الأمة، وفهم مشكلاتها.
وكان للشيخ منهجه في الحديث أخذت عليه بعض التعليقات، وخالفه بعض أئمة هذا الشأن المعاصرين، وهو كغيره من أهل العلم يؤخذ من قوله ويترك.
وكان له -رحمه الله- مشاريع كثيرة في نشر كتب العلم، وتحقيقها، لكنه لم يتم أكثرها، ولعل ذلك لانشغاله بأكثر من عمل في وقت واحد. ولله الأمر من قبل ومن بعد.

أشهر شيوخه:
تربى الشيخ -رحمه الله- في بيئة علمية فوالده كان وكيلاً للأزهر، وجدّه لأمه العالم الجليل هارون عبد الرزاق، بالإضافة إلى وجود الأزهر الذي كان يستقطب كبار العلماء من شتى بلدان العالم الإسلامي مما أتاح للشيخ الاستفادة منهم.

مِن أشهر من استفاد منهم:
1- والده الشيخ محمد شاكر وكان أعظم الناس أثرا في حياته وقد كان يجمعه وإخوته ويدرس لهم الفقه والأصول والتفسير وغيرها من العلوم، وهو الذي وجه الشيخ إلى علم الحديث لما رأى نبوغه فيه.
2- الشيخ عبد السلام الفقي. تعلم منه الأدب واللغة والشعر.
3- الشيخ محمود أبو دقيقة. تعلم منه الفقه والأصول. بجانب الفروسية والرماية والسباحة إلا أنه لم يُجد السباحة.
4- علامة الشام الشيخ جمال الدين القاسمي.
5- علامة المغرب ومحدثها الشيخ عبد الله بن إدريس السنوسي. وقد أجازه برواية صحيح البخاري وبقية الكتب الستة.
6- الشيخ طاهر الجزائري من كبار علماء الشام.
7- الشيخ محمد رشيد رضا.
8- أخذ على الشيخ محمد الأمين الشنقيطي "بلوغ المرام" وأجازه بالكتب الستة.
9- الشيخ أحمد بن الشمس الشنقيطي

أشهر مصنفاته:
1- تحقيق كتاب الرسالة للإمام الشافعي وهو أول كتاب عرف به الشيخ.
2- تحقيق "الجامع" للإمام الترمذي وصل فيه إلى نهاية الجزء الثالث.
3- تحقيق وشرح مسند الإمام أحمد وصل فيه إلى ثلثه تقريباً، وعدد الأحاديث التي حققها 8099 حديث.
4- تحقيق مختصر سنن أبي داود للحافظ المنذري ومعه معالم السنن للخطابي وتهذيب ابن القيم بالاشتراك مع الشيخ محمد حامد الفقي وطبع في ثمانية مجلدات.
5- تحقيق صحيح ابن حبان حقق الجزء الأول فقط.
6- شرح ألفية السيوطي في علم الحديث.
7- الباعث الحثيث شرح اختصار علوم الحديث.
8- تحقيق كتاب الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم.
9- عمدة التفسير اختصار تفسير ابن كثير.
10- تحقيق أحاديث تفسير الطبري، اشترك معه أخوه الشيخ/ محمود شاكر، وصل فيه إلى الجزء الثالث عشر.
11- تحقيق كتاب لباب الآداب للأمير أسامة بن منقذ.
12- تحقيق شرح الطحاوية.
13- كلمة حق وهو عبارة عن كتاب جمعت فيه مقالات كتبها في مجلة الهدي النبوي حينما كان رئيس تحرير لها.
14- تحقيق جزأين من المحلى.
15- تحقيق "العمدة" للحافظ المقدسي.
16- نظام الطلاق في الإسلام.
17- الكتاب والسنة يجب أن يكونا مصدر القوانين.
18- كلمة الفصل في قتل مدمني الخمر.
19- واشترك مع الشيخ عبد السلام هارون في تحقيق "المفضليات" و"الأصمعيات" وإصلاح المنطق.

وقد كانت وفاة الشيخ -رحمه الله- في فجر السبت السادس والعشرين من شهر ذي القعدة ســ1377ـنـة هـ الموافق 14 حزيران/ يونيو 1958م.
رحم الله الشيخ رحمة واسعة، وحشرنا وإياه في زمرة الصالحين .

يتبع

 
التعديل الأخير:
الإمام ابن عبد البر
محدث الأندلس وفقيهها



أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر بن عاصم النَمَرِيّ الأندلسي، القرطبي المالكي، المعروف بابن عبد البر (368 هـ - 463هـ)، هو الإمام الفقيه المجتهد الحافظ ومحدث عصره، كان قاضيا ومؤرخا، صاحب التصانيف المهمة، من أشهر أصحابه الإمام علي بن حزم الأندلسي، وكان إماماً، ثقةً، متقناً، علامةً، متبحراً، وكان في أصول الديانة على مذهب أهل السنة والجماعة، وكان في بدايته ظاهريا، ثم تحول مالكيا مع ميل واضح إلى فقه الشافعي في مسائل.

ولادة ابن عبد البر ونشأته
ولد بـ قرطبة عام 368 هـ في شهر ربيع الآخر، وقيل: في جمادى الأولى، فاختلفت الروايات في الشهر عنه، ونشأ بها وتعلّم الفقه والحديث واللغة والتاريخ، ارتحل إلى بطليوس أيام سقوط الدولة الأموية بالأندلس، وعاش بها في كنف أمراء بني الأفطس، وولي قضاء أشبونة وشنترين في مدة المظفر بن الأفطس، أحد أمراء بني الأفطس، ثم تحوّل إلى شرق الأندلس، فنزل ببلنسية ودانية، وطلب العلم بعد سنة 390، وأدرك الكبار، وطال عمره، وعلا سنده، وتكاثر عليه الطلبة، وجمع وصنف، ووثّق وضعّف، وسارت بتصانيفه الركبان، وخضع لعلمه علماء الزمان، وفاته السماع من أبيه الإمام أبي محمد فإنه مات قديما في سنة 380 وكان فقيها عابدا متهجدا، وعاش أبوه خمسين سنة وكان قد تفقه على التجيبي وسمع من أحمد بن مطرف، وأبي عمر بن حزم المؤرخ.

بعض أقوال العلماء في ابن عبد البر
قال الحميدي :ابن عبد البر أبو عمر فقيه حافظ مكثر، عالم بالقراءات وبالخلاف، وبعلوم الحديث والرجال، قديم السماع، يميل في الفقه إلى أقوال الشافعي.
وقال أبو علي الغساني: لم يكن أحد ببلدنا في الحديث مثل قاسم بن محمد، وأحمد بن خالد الجباب. ثم قال أبو علي: ولم يكن ابن عبد البر بدونهما، ولا متخلفا عنهما، وكان من النمر بن قاسط، طل وتقدم، ولزم أبا عمر أحمد بن عبد الملك الفقيه، ولزم أبا الوليد بن الفرضي، ودأب في طلب الحديث، وافتنّ به، وبرع براعة فاق بها من تقدمه من رجال الأندلس، وكان مع تقدمه في علم الأثر وبصره بالفقه والمعاني له بسطة كبيرة في علم الأنساب والأخبار، جلا عن وطنه، فكان في الغرب مدة، ثم تحول إلى شرق الأندلس، فسكن دانية، وبلنسية، وشاطبة وبها توفي. وذكر غير واحد أن أبا عمر ولي قضاء أشبونة مدة .
وقال أبو علي الغساني: ألّف أبو عمر في الموطأ كتبا مفيدة منها : كتاب "التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد" فرتبه على أسماء شيوخ مالك، على حروف المعجم، وهو كتاب لم يتقدمه أحد إلى مثله، وهو سبعون جزءا.
وقال أبو القاسم بن بشكوال: ابن عبد البر إمام عصره، وواحد دهره، يكنى أبا عمر، روى بقرطبة عن خلف بن القاسم، وعبد الوارث بن سفيان، وسعيد بن نصر، وأبي محمد بن عبد المؤمن، وأبي محمد بن أسد، وجماعة يطول ذكرهم. وكتب إليه من المشرق السقطي، والحافظ عبد الغني، وابن سيبخت، وأحمد بن نصر الداودي، وأبو ذر الهروي، وأبو محمد بن النحاس.
وقال أبو علي بن سكرة: سمعت أبا الوليد الباجي يقول : لم يكن بالأندلس مثل أبي عمر بن عبد البر في الحديث، وهو أحفظ أهل المغرب.
قال علي بن حزم الأندلسي: لا أعلم في الكلام على فقه الحديث مثله أصلاً، فكيف أحسن منه، ولصاحبنا أبي عمر ابن عبد البر كتب لا مثيل لها.

ظاهرية ابن عبد البر:
قال الذهبي في كتابه سير أعلام النبلاء: ابن عبد البر كان إماما ديّنا، ثقة، ثبتا، مُتقنا، علامة، مُتبحرا، صاحب سنة واتباع، وكان أولا أثريا ظاهريا فيما قيل، ثم تحوّل مالكيا مع ميل إلى فقه الشافعي في مسائل، ولا يُنكر له ذلك، فإنه ممن بلغ رتبة الأئمة المُجتهدين.
وقال شيخ الذهبي أبى عبد الله بن أبي الفتح: كان أبو عمر أعلم مَن بالأندلس في السنن والآثار.. وكان في أول زمانه ظاهري المذهب مدة طويلة ثم رجع إلى القول بالقياس من غير تقليد أحد.
وقال جلال الدين السيوطي : وكان أولا ظاهريا ثم صار مالكيا

علاقة ابن عبد البر بابن حزم
قال الذهبي في كتابه سير أعلام النبلاء: إن أبا عمر بن عبد البر كان صديقًا لعلي بن حزم الأندلسي، وكان ينبسط إليه ويؤانسه، وأنه عنه أخذ ابن حزم فن الحديث.
وقال إسماعيل بن عمر بن كثير في كتابه البداية والنهاية وكان -أي علي بن حزم الأندلسي- مصاحباً للشيخ أبي عمر ابن عبد البر النمري، وكان مناوئاً للشيخ أبي الوليد سليمان بن خلف الباجي.
وكان علي بن حزم الأندلسي يصفه بالصاحب، وروى ذلك كثيراً في كتبه كالإحكام في أصول الأحكام، والمحلى، والفصل في الملل والأهواء والنحل، فيقول: "كتاب كذا لصاحبنا أبي عمر".
ثم إن علي بن حزم الأندلسي يذكر ابن عبد البر في كتبه، ويضفي عليه صفة الإمامة والاجتهاد، وحسبك بأبي محمد مثنيًا، يقول في كتابه جوامع السيرة: "وممن أدركنا ممن جرى على سنن من تقدم ممن ذكرنا: مسعود بن سليمان بن مفلت أبو الخيار، ويوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر النمري، فهؤلاء أهل الاجتهاد من أهل العناية".
وأشاد في رسالة فضل الأندلس به وبمصنفاته فقال: "ومنها كتاب التمهيد لصاحبنا أبي عمر يوسف ابن عبد البر، وهو كتاب لا أعلم في الكلام على فقه الحديث مثله أصلاً، فكيف أحسن منه، ولصاحبنا أبي عمر ابن عبد البر المذكور كتب لا مثيل لها".

ولقد توصل المستشرق الإسباني اسين بلاسيوس وكان راهبا من الرهبان انشغل بعلم ابن حزم وكتبه وطرح في كتابه عن ابن حزم "إن ابن عبد البر في كتابه جامع بيان العلم يبدو متأثرا بنهج ابن حزم وفكره".
كما أن ابن عبد البر من فرط حبه في ابن حزم، كان يطالع كل جديد يكتبه ابن حزم، فلما كتب ابن حزم رسالته في الغناء الملهي أمُباح هو أم محظور؟ حُملتْ الرسالة إلى ابن عبد البر، فمكثتْ عنده شهرا، فنظرها، ثم قال: "نظرتها فلم أجد ما أزيد عليها ولا أنقص".

ويذكر المقري في كتابه نفح الطيب قصة طريفة اتفقت لابن عبد البر مع علي بن حزم الأندلسي، تدل على تغلغل الظاهرية في روح علي بن حزم الأندلسي وفكره وشعوره، كما تدل على نوع الصداقة التي كانت تجمعهما، قال : "مر ابن حزم يومًا هو وأبو عمر بن عبد البر صاحب الاستيعاب بسكة الحطَّابين من مدينة إشبيلية، فلقيهما شاب حسن الوجه، فقال أبو محمد ابن حزم: هذه صورة حسنة، فقال له أبو عمر ابن عبد البر: لم تر إلا الوجه، فلعل ما سترته الثياب ليس كذلك. فقال ابن حزم ارتجالاً:

وذي عذل فيمن سباني حسنُه * يُطيل ملامي في الهـوى ويقولُ
أمن أجل وجه لاح لم تر غيره * ولم تدر كيف الجسم أنت عليلُ
فقلت له أسرفت في اللوم * فاتئد فعنديَ ردٌّ لو أشـاء طويـلُ
ألم تر أني ظاهــريُّ وأنـني * على ما أرى حتى يقوم دليـلُ


وفاة ابن عبد البر
قال أبو داود المقرئ: مات أبو عمر ليلة الجمعة سلخ ربيع الآخر، سنة (463هـ) واستكمل خمسا وتسعين سنة وخمسة أيام.

مصنفات ابن عبد البر
ترك ابن عبد البر من تآليفه وتصنيفاته مكتبة زاخرة، فقد صنف رحمه الله في الفقه وأصوله وفي علوم القرآن والقراءات والحديث وعلومه والتراجم وعلم الرجال والتاريخ والسير والأنساب، وغيرها.
ومن هذه المؤلفات:
الأجوبة الموعبة في الأسئلة المستغربة، أخبار أئمة الأمصار، اختلاف أصحاب مالك بن أنس واختلاف رواياتهم عنه، الاستيعاب في معرفة الأصحاب، الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار وعلماء الأقطار، تجريد التمهيد في الموطأ من المعاني والأسانيد، الإشراف على ما في أصول فرائض المواريث من الإجماع والاختلاف، الاكتفاء في قراءة نافع وأبي عمرو بن العلاء بتوجيه ما اختلف فيه، الإنباه على قبائل الرواة، الاتقاء في فضائل الثلاثة الأئمة الفقهاء، الإنصاف فيما في بسم الله من الخلاف، البستان في الأخدان، بهجة المَجالس وأنس المُجالس وشحذ الذاهن والهاجس، البيان عن تلاوة القرآن، التجريد والمدخل إلى علم القراءات بالتجويد، التقصي لما في الموطأ من حديث الرسول، التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد، جامع بيان العلم وفضله، جمهرة الأنساب، الدرر في اختصار المغازي والسير، رسالة في أدب المجالسة وحمد اللسان، شرح زهديات أبي العتاهية، الشواهد في إثبات خبر الواحد، العقل والعقلاء وما جاء في أوصافهم عن الحكماء والعلماء، القصد والأمم في التعريف بأصول أنساب العرب والعجم، الكافي في فقه أهل المدينة.

عن موقع قصة الإسلام

يتبع
 
الإمام ابن دقيق العيد


اسمه ولقبه:
هو: الشيخ, الإمام، العلامة محمد بن عبد الله بن وهب، إلا أن اللقب الذي غلب عليه هو ابن دقيق العيد، وهو لقب جده الأعلى, وقد لقب كذلك لأن هذا الجد كان يضع على رأسه يوم العيد طيلساناً أبيضاً شديد البياض، فشبهه العامة من أبناء الصعيد لبياضه الشديد هذا بدقيق العيد.

نشأ ابن دقيق العيد في مدينة قوص تحت رعاية والده مجد الدين القشيري الذي تخرج على يديه الآلاف من أبناء الصعيد، وقد عاش شبابه تقياً نقياً ورعاً.
حفظ القرآن الكريم حفظاً تاماً، وتفقه على مذهب الإمام مالك على يد أبيه، ثم رجع وتفقه على مذهب الإمام الشافعي على يد تلميذ أبيه البهاء القفطي، كما درس النحو وعلوم اللغة على يد الشيخ محمد أبي الفضل المرسي، وشمس الدين محمود الأصفهاني، ثم ارتحل إلى القاهرة التي كانت في ذلك الوقت مركز إشعاع فكري وثقافي يفوق كل وصف، تكتظ بالعلماء والفقهاء في كل علم وفن، فانتهز ابن دقيق العيد هذه النهضة العلمية الواسعة التي شهدتها القاهرة في ذلك الوقت، والتف حول العديد من العلماء، وأخذ على أيديهم في كل علم وفن في نهم بالغ.
أسند إليه والي قوص منصب القضاء على مذهب الإمام مالك، وذلك حينما أشار أحد المقربين إلى السلطان منصور بن لاجين قائلاً: «هل أدلك على محمد بن إدريس الشافعي، وسفيان الثوري وإبراهيم بن أدهم ؟ فعليك بابن دقيق العيد... » فكان أن تقلد ابن دقيق العيد هذا المنصب الذي ظل شاغلاً له مدة سبع سنوات، بلغت فيها شخصيته مكانة مرموقة في الديار المصرية.
تقلد منصب التدريس بالمدرسة النجيبية، وهي إحدى المدارس الشهيرة في قوص، وهو لم يتجاوز السابعة والثلاثين من عمره.
في القاهرة قام بالتدريس بالمدرسة الفاضلية، والكاملية، والصالحية، والناصرية.

شيوخه:
- لازم الشيخ عز الدين بن عبد السلام حتى وفاته.
- وسمع الحافظ عبد العظيم المنذري.
- وعبد الرحمن البغدادي البقال.
- ثم سافر بعد ذلك إلى دمشق وسمع بها من الشيخ أحمد عبد الدايم وغيره.
- ثم اتجه إلى الحجاز ومنه إلى الإسكندرية فحضر مجالس الشيوخ فيهما، وتفقه. وقد جمع بين فقهي الإمامين مالك, والشافعي.

تلاميذه:
- محمد بن إسماعيل بن يحيى بن إسماعيل بن طاهر بن نصر الله بن جهبل الكلابي الحلبي.
- فتح الدين ابن سيد الناس.
- قطب الدين ابن منير.
- قاضي القضاة علاء الدين القونوي.
- قاضي القضاة علم الدين الإخنائي.

فضائله, وثناء العلماء عليه:
لقد وصفه كثير من المؤرخين وكتّاب التراجم والطبقات كالسبكي وابن فضل الله العمري والأدفوي وغيرهم: بأنه لم يزل حافظاً للسانه، مقبلاً على شأنه. وقف نفسه على العلوم وقصدها، فأوقاته كلها معمورة بالدرس والمطالعة أو التحصيل والإملاء.
وقال عنه بن سيد الناس: «لم أرَ مثله فيمن رأيت، ولا حملت عن أجلّ منه فيما رأيتُ ورويتُ، وكان للعلوم جامعاً، وفي فنونها بارعاً، مقدماً في معرفة علل الحديث على أقرانه، منفرداً بهذا الفن النفيس في زمانه، بصيراً بذلك شديد النظر في تلك المسالك.. وكان حسن الاستنباط للأحكام والمعاني من السنة والكتاب، مبرزاً في العلوم النقلية والعقلية».
ويقال إنه طالع كتب المدرسة الفاضلية بالقاهرة عن آخرها، وقد كان دأبه أن يقضي الليل في المطالعة والعبادة، فكان يطالع في الليلة الواحدة المجلد أو المجلدين، وربما تلا آية واحدة من القرآن الكريم فكرّرها حتى مطلع الفجر.
استمع له بعض أصحابه ليلة وهو يقرأ فوصل إلى قوله تعالى: { فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون } قال: فما زال يكررها إلى طلوع الفجر.
ومن أقواله: «ما تعلمت كلمة ولا فعلت فعلاً إلا وأعددت له جواباً بين يدي الله عز وجل».

مؤلفاته:
إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام
الإلمام الجامع لأحاديث الأحكام في 20 مجلداً.
شرح مقدمة المطرزي في أصول الفقه.
شرح كتاب التبريزي في الفقه.
شرح مختصر ابن الحاجب في الفقه.
الاقتراح في معرفة الاصطلاح.
وله ديوان شعر ونثر لا يخرج عن طريقة أهل عصره الذين عرفوا بالسَّجع والمحسّنات البديعة.

وفاته:
توفي بالقاهرة في صبيحة يوم الجمعة لتسعة أيام بقيت من صفر 702 هـ بعد أن عمّر 77 عاماً، قضاها في خدمة الدين الإسلامي الحنيف في مختلف أنحاء العالم الإسلامي. وقد دفن يوم السبت، وكان يوماً مشهوداً عزيزاً في الوجود، وقد وقف جيش مصر ينتظر الصلاة عليه.

مراجع الترجمة:
الوافي بالوفيات للصفدي
الدرر الكامنة لابن حجر.

منقول
 
التعديل الأخير:
عودة
أعلى