الشيخ محمود غريب / د. أكرم عبدالرزاق المشهداني

  • بادئ الموضوع Nabil
  • تاريخ البدء

Nabil

التحالف يجمعنا
مستشار المنتدى
إنضم
4/5/19
المشاركات
10,802
التفاعلات
19,815
الشيخ محمود غريب*

الدكتور أكرم عبدالرزاق المشهداني



بمزيد من الحزن والأسى نعت الأخبار إلينا وفاة الأستاذ الداعية والمربي الشيخ محمود غريب (الذي تخرج على يديه آلاف الشباب المؤمن في العراق) بعد أن وافته المنية أثر مرض عضال.. عرفته بغداد وسائر مدن العراق واعظاً ومربياً وخطيباً ومرشدا، سنوات السبعينات من القرن الماضي، حيث كان خطيبا وإماما بجامع آل بنية في الكرخ بين عامي 1974 و 1981 وكانت دروسه المتميزة تستقطب الآلاف من الرجال والنساء كبارا وصغارا، كانت أمنيته قبل أن يموت في صلالة بسلطنة عمان أن يدفن في بغداد التي أحبها وعشقها.

عرفته مساجد العراق من البصرة إلى زاخو خطيبا وواعظا، بارعاً وداعيةً واعياً ومربياً فريداً، عاش محباً للعراق وفياً لأهله دائم الدعاء للعراق وللعراقيين حتى بعد أن (أخرج) عنوة من العراق بدسيسة من جهة ما، بالقصة المعروفة، وكان يجيد الدعابة ومن دعاباته أنه كان يدعو الله فيقول ((اللهم إنّ العراق مريض بالكرم... أسألك اللهم أن لا تشافيه منه!!))..
ولئن رحل عنا الشيخ الجليل محمود غريب فإن آثاره الطيبة خالدة لا تمحى، منهج دعوي طيب، وكتب قيمة خطها بقلمه، وترك لنا آثاراً طيبة في جيل كامل تربى على يديه في حب القرآن، وآلاف المحاضرات المسجلة ومكتبة صوتية ثمينة من الدروس المتنوعة في التفسير والسيرة النبوية يتداولها العراقيون من سبعينات القرن الماضي حتى اليوم.

أسير بحب بغداد وأهلها:
كان شيئا يبعث على السرور والإنشراح أن تقوم قناة فضائية عراقية (هي الرافدين) بإستذكار فضائل الشيخ المجاهد محمود غريب على أهل بغداد وأهل العراق، من خلال نشاطه الدعوي الإسلامي الذي أدى إلى هداية وإرشاد المئات بل الآلاف من العراقيين نساء ورجالا، من خلال دروسه ومواعظه التي كان يلقيها في سبعينات القرن الماضي في جامع آل بنيّة بالكرخ، حتى صار الجامع مقصداً لعشرات الألوف من الافراد والعوائل من جميع أنحاء بغداد بل ومن جميع أنحاء العراق لما وهبه الله لهذا الشيخ الجليل من قدرة رائعة على الوعظ والإرشاد والإفتاء والنصيحة والأمر الطيب أن القناة اطلقت عليه وعلى سلسلة لقاءاته التافزيونية (أسير بغداد) لأنه مأسور بحب بغداد وأهل بغداد يرحمه الله..

محنة الشيخ في تهمة باطلة:
ربما كان هناك من جيل الشباب من لا يتذكر قصة محنة الشيخ محمود غريب الذي أطلقت عليه القناة تسمية (أسير بغداد) وهي نعم التسمية، ليس لما لاقاه من عنت التعذيب على أيدي الأجهزة الأمنية آنذاك بسبب وشاية كاذبة، بل لأنه أسير بحب بغداد وأهل بغداد، وأهل العراق رغم كل مالاقاه من عنت وعذاب الأجهزة التي أغضبتها وأقلقتها هذه الحشود الهائلة من الشباب والصغار والرجال والنساء التي تفد إلى جامع إبن بنية لتستمع الى الشيخ الجليل محمود غريب، وتأثر به الآلاف من العراقيين ممن كانوا آنذاك بأعمار صغيرة وتعلموا دروس القرآن وحفظوا القرآن على يدي هذا الداعية المجاهد. وكانت باصات تنطلق من وإلى المسجد لإيصال المئات من الأطفال من مختلف أنحاء بغداد وعلى نفقة ميسورين أخيار ومجانا من أجل حضور دروس تحفيظ القرآن التي يقيمها الشيخ الراحل.

كان الشيخ غريب أول من فتح باب تعليم القرآن للصغار وللنساء في المساجد، بعد أن لم تكن من قبل، ويعتبر هو صاحب أعظم حملة ايمانية في العراق منذ سبعينات القرن الماضي، وكان ذلك في جامع آل بنيه في منطقة العلاوي، ولكن للاسف كان هناك من أغاضهم تجمّع الشباب والصغار والكبار في حلقات القرآن لدى الشيخ في جامع بنية، فاتهموه بالتواطؤ مع إيران وأنه ينتمي لحزب الدعوة (!!) وهي تهمة سخيفة بل ومضحكة، وهم يعلمون أنه أبعد ما يكون عن إيران وطائفيتها. واستطاع الشيخ رحمه الله الخروج من العراق عن طريق الموصل ثم الى الخارج بمساعدة الأخيار من العراقيين الذين لم يذكرهم الشيخ إلا بعد سقوط النظام السابق خشية عليهم...

ماذا يقول الشيخ الراحل في أهل العراق؟
يقول الشيخ في ابتداء حديثه: الحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى، ثم اما بعد ، سلام على أهل العراق في رخاءه ومحنته، وعلى كل تلميذ من تلاميذ القرآن في جامع إبن بنية، يوم ولد، ويوم يموت، ويوم يبعث حياً، اعرف ان في كل بلد أوفياء يُزينون شعوبهم، اما أن يخلق الله شعباً كاملاً على خلق الوفاء.. شعباً كاملا.. مليئاً بالكرم .. فهذا ما يخضع لقانون الندرة في الأخلاق.

من هو الشيخ محمود غريب ؟
الشيخ الجليل محمود محمد غريب، مواليد 12-11-1940، زوج لامرأة رحلت الى ربها وآثرت جواره الكريم في 28-3-2001 وقد أكرمه الله منها بمصطفى وتيسير. كان في صغره صانعاً للمفاتيح متفرغاً لهذا العمل 17 سنة، درس خلال هذه المدة بالأزهر الشريف حتى أتم الدراسات العليا وهو يعمل صانعا للمفاتيح. وقد جعله ذلك يتحمّل الجمع بين مشقة العمل في الصنعة والدراسة وحبه للدعوة الى الله.

وكان يؤمن أن الدعوة لا بد أن تكون على علم كما قال تعالى :
{ قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ }.
لأن الله سبحانه امرنا ان نأمر بالمعروف ولم يبين لنا ما هو المعروف وان نعمل الخير :
{ وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ }

بدأ الشيخ غريب حياته العلمية واتجاهه الخطابي البارع وكان الأول في دورته في الخطابة على مصر ومن أبرز أساتذته كان كل من الشيوخ: عبد العال احمد عبد العال، والإمام محمد أبو زهرة، والامام محمد الغزالي، والشيخ محمد عبد الله مصطفى ناجي والشيخ منصور عويس - رحمهم الله عنهم أجمعين- ويرى الشيخ أنه لم يستطع ان يعطي تلاميذه ما اعطاه له اساتذته.

بدأت حياة الشيخ في الدعوة في 17-3-1957 وكان طالبا بالثانية اعدادي بمعهد الزقازيق الديني. وحصل بفضل الله على اولوية الازهر الشريف للخطابة في 24-4-1966 على مستوى المعاهد الازهرية والبحوث الاسلامية وعلى شباب متنافسين جاءوا من 73 دولة اسلامية يدرسون في مصر.

أما عن أبرز العلماء الذين تأثر بهم الشيخ غريب في الخطابة وفي الدعوة في مصر والعراق فقال: أبرز العلماء الذين تأثرت بهم في الخطابة الشيخ خلف السيد وكيل الازهر الشريف كان يسمح لي ان اشاركه الندوات وانا صانع مفاتيح وطالب بالقسم الإعدادى. ثم الأستاذ الإمام محمد الغزالي الذي رشحني للعمل في العراق واصر في اختياري لهذا العمل الكبير -رضي الله عنه- وقصة هذا الأمر بينه وبين الرجل الكريم الحاج عبد الوهاب محمود جاسم البنية حفظه الله.

حكاية الشيخ محمود غريب في بغداد:
وحين سُئل الشيخ غريب عن شعوره بعد أن تم عقد عمله في بغداد وهو لم يرها من قبل، وهل كان يراوده شيء للعمل الدعوي في بغداد؟ قال الشيخ محمود غريب:
يعلم الله اني رأيت العراق وجامع بنية - كما هو- في رؤيا بالمنام... وقيل لي لماذا تخاف؟ انت هناك ستخدم 12 الف مسلم فسألته: هل يوجد في العراق مطاعم (فول مدمس وفلافل) قال لي: بل يوجد (كبّة !!)، ((عرضت الرؤيا على احد شيوخي فقال: فول وفلافل و12 الف مسلم سافر يا محمود، فهي رحلة واسعة في الدعوة ضيقة في الدنيا، ولكن اقسم بالله انها كانت دنيا ودين- والحمد لله- .
دخلت بغداد في 24-4-1974 وفتحنا جامع البنية 29-5-1974 وفي هذا الشهر كلفني أستاذي الدكتور محمد السيد ندا استاذي بالدراسات العليا بكلية أصول الدين وكان يخطب الجمعة بجامع الشيخ عبد القادر الجيلاني رضي الله عنه كلفني بخطبة الجمعة بالجامع . كان لي درس يومي الاثنين والخميس درس الاثنين كان تفسيراً موضعياً للقرآن الكريم لان القرآن يجمع كل الطوائف في العراق، ودرس الخميس للنساء، سلام على تلميذات القرآن لقد بدأت بخمس من الاخوات الدارسات ويوم خرجت من العراق كان جامع بنية وحده يسع ألف امرأة.
يقول الشيخ الراحل: (ويحسن هنا ان اؤكد ضرورة وجود النساء في المسجد فمن يربي أولادنا على العمل الإسلامي الحركي اذا لم تربيّه أُمّه المؤمنة الفاهمة لدينها. إن احدى تلميذات القرآن حدثتني هذا الاسبوع عن فخرها باستشهاد ولدها في بطولات الفلوجة واعتقال أخيها وابنتها الكبيرة، سلام على تلميذات القرآن، وسلام على اسماء بنت ابي بكر رضي الله عنهما فهي ام المجاهدات الصابرات ).

الحاج رشيد الهجو:
وعن من يتذكر من الرجال في تلك الفترة ؟ يقول الشيخ أشهد بالله ان رجلا واحد مثل رشيد عبد الرزاق الهجو يزن في حياتي كل رجال الدنيا، والله أعلم بما قدم لي يوم ان خطط لهروبي ولكن الله رزقني ان اعتصم به، وأستغني بالله، وأعيش امدح ذكرى هذا الرجل العظيم سبعاً من السنوات الخضر بينكم زرعتها وأبو الغيث ينهمر.
وبقية من الرجال لا يتكرر مثلهم في دنيا الناس، ورحم الله اخي احمد مهدي الحلي الذي جند نفسه في خدمتي. والشاب الشيخ محمود علي الفلاحي الذي كان خلف كل نجاح لي في الدعوة، جاءني في الأيام الاولى من وجودي ببغداد وقال لي: (( هل اتبعك على ان تعلمني مما علمت رشدا ))
قلت له: (( إنك لن تستطيع معي صبرا )) قال:
(( ستجدني ان شاء الله صابرا ولا اعصي لك امرا )) وكان كما وعد.
حفظ الله تلميذ القرآن الدكتور فؤاد خليل العاني الذي سمعني في اخر درس القيته في 23-11-1981 عن قوله تعالى : { إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (15) آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ (16) كَانُوا قَلِيلًا مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17)}(الذاريات) ووقفت على قوله تعالى : { كَانُوا قَلِيلًا } فوقف الطالب فؤاد في انفعال شديد: من اين اتيت بهذا الوقف العظيم؟ فقلت له من كتاب ((زاد المسير في علم التفسير)).

وفي العراق من فضل الله استطاع الشباب الجاد ان يحافظ على أكثر من ألف شريط عندما وضعوها في صندوق كبير ووضعوها في حديقة في بيت أحد الرجال حتى مضت المحنة .... وعادت كلمة الله الى الشعب الوفي شعب العراق العظيم.

لماذا فزعت أجهزة الأمن من محمود غريب؟
يقول جوابا على سؤال: كيف تعاملت معك الدولة آنذاك خاصة مع قوة انتشار الدعوة وكثرة مرتادي دروسك في جامع بن بنية؟
بعد افتتاح جامع بنية باسبوعين فـَزَعت إحدى الصحف اليومية، ونشرت مقالا لكاتب طائفي يُحَذّر من جامع البنية ومن تجمّع آلاف الشباب فيه ... فخدمتني هذه الجريدة إعلاميا خدمة كبيرة. لقد كانت دورات تحفيظ القرآن الكريم في جامع البنية في العطلة الصيفية ؟ فقد كانت دارا آمنة للشباب المسلم الذي يريد خدمة القرآن، كانوا يخلعون ملابسهم ونغسل مدرسة التربية الإسلامية في المنصور ولو أردنا عمالاً للنظافة لجاءنا الكثير، ولكن الشباب الجامعي يريد خدمة الإسلام. إنها فرحة العمل الإسلامي وحماس الشباب لخدمة الإسلام الذين يملكون طاقات لا غنى للامة عنها

وعن كرم أهل القرى والأرياف يتحدث الشيخ محمود غريب:
كرم اهل القرى او مبالغتهم في الكرم كانت تجذب الجموع للعمل الإسلامي في القرى والعلماء يقولون: يسقط الطير عندما ينثر الحب،وكان لنا في كل قرية بيت أهله يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أُوتوا.

سلسلة كتب ياولدي!
يقول الراحل : الحمد لله وصلت سلسلة يا ولدي لعدد من الرسائل اسأل الله ان ينفع به،هذه عقيدتك يا ولدي، هذا نبيك يا ولدي، كتاب الله يا ولدي، شريعة الله ياولدي. وسلسلة التفسير الموضوعي صدر منها: سور الواقعة ومنهجها في العقائد، حتى لانخطئ فهم القرآن، سلم أخلاق النبوة، تعدد الزوجات، الطلاق تحسبونه هيّنا وهو عند الله عظيم... وكتب اخرى تنتظر النور.

وعن شعوره بعد سقوط النظام الذي آذاه في بغداد يقول:
اقول دائما أميريكا تعرف من تصطاد وماذا تفعل بصيدها، ان العراق رأس النعامة، ان النعامة تصل الى ستين كيلو من اللحم، ورأسها نصف كيلو، ولكن رأسها يتبصر العدو على بُعد طويل، فتحذّر الحيوانات، فهي انذار مبكر. فجاء الثعلب واشترى رأس النعامة من الكلاب. أخذ رأس النعامة وترك لهم الجسد الكبير ينعمون به فاصبحت الغابة بدون (جهاز انذار)!!.، لقد خسر العرب والمسلمون بسقوط العراق وغزوه قلعة حصينة ضد الأعداء.

آخر كلمة من الشيخ الراحل لأهل العراق: سلامي على اهل العراق وسلامي على تلاميذ القرآن، ونحن على العهد نرعى الوداد.

وختاما: نسأل الله سبحانه أن يغفر للشيخ الجليل الراحل ويرحمه يكتبه عنده في الصالحين وأن يلهم ذويه ومحبيه الصبر
والسلوان..

عن موقع الرابطة العراقية
* بتصرف بسيط علما أن المقالة قديمة
 
عودة
أعلى