جهود نور الدين زنكي في دعم المذهب السني في حلب

لادئاني

مستشار المنتدى
إنضم
16/12/18
المشاركات
28,207
التفاعلات
77,266
جهود نور الدين الزنكي في دعم المذهب السني حلب :


عرفت حلب بميلها إلى المذهب الشيعي ابتداء من النصف الثاني من القرن الرابع الهجري تقريباً.. وسبب ذلك أن القرن الرابع شهد وصول موجة كبيرة من البدو المهاجرين إلى أعالي الجزيرة الفراتية وشمالي الشام من قبائل عامر بن صعصعة وهي : كلاب، وعقيل، ونمير، وقشير، وخفاجة، ومعظم هذه القبائل شيعة تدين بمذهب:" الإثنا عشرية" وإن كان تعلقهم الجدي بهذا المذهب لم يكن واضحاً في كثير من الأحيان.


ويذكر الدكتور ابن العديم في:" بغية الطلب" أن نميرا وصلت إلى الجيرة سنة 309هـ/= 921م، وأن كلابا وصلت إلى شمالي الشام سنة 320هـ/= 932م.


وأخذ نفوذ الشيعة في حلب يظهر بوضوح في أواخر أيام سيف الدولة الحمداني (333=356هـ944/=921م) لأن بني حمدان كانوا يعتنقون مذهب الشيعة فيسروا لدعاة هذا المذهب الطريق لنشر الدعوة فيها، ثم عملوا بعد ذلك على إزالة شعائر السنة ، وإحلال شعائر الشيعة محلها ، وذلك عندما غير سعد الدولة أبو المعالي (356ـ381هـ967ـ991م) ابن سيف الدولة الأذان بها في عام 367هـ=977م وزاد فيه: حي على خير العمل محمد وعلي خير البشر، فكان هذا مبدأ ظهور الإمامية بحلب، وما زال نفوذهم يزداد نتيجة لتعاقب بعض الأسر الشيعية على حكمها: كآل مرداس والعقيليين حتى أصبح شعار الرفض بها ظاهراً.


وإلى جانب هذه الكثرة من الشيعة الإمامية، وجدت قلة من الشيعة الإسماعلية ازداد نفوذهم في حلب في عهد رضوان بن تتش الذي أمل أن ينصروه على أخيه دقاق، ويساعدوه في أخذ دمشق منه، ومن ثم بني لهم بحلب أول دار للدعوة، ودعا على منابرها للفاطميين في فترة يسيرة من الزمن، ومن هؤلاء وأولئك تكوَّن مجتمع الشيعة في حلب، ومثّلوا الغالبية العظمى بالنسبة للسكان.


ومعظم هؤلاء الشيعة كانوا متعصبين حتى إن حاكم حلب سليمان بن عبد الجبار بن أرتق عندما عزم على بناء أول مدرسة سنية في عام( 517هـ =1122م) لم يمكنه الحلبيون " إذ كان الغالب عليهم حينئذ التشيع فكان كلما بني فيها شيء نهاراً أخربوه ليلاً إلى أن أعياه ذلك فأحضر الشريف زهرة بن علي بن محمد الحسيني، ووكل إليه أمر بنائها ليكف العامة عن هدم ما يبني منها"


ومعنى هذا أن سليمان بن أرتق لم يتمكن من بناء هذه المدرسة السنية إلا بعد أن أسند أمر بنائها إلى أحد العلويين من ذوي النفوذ في قومه كان من " أكابر الأشراف وذوي الرأي والأصالة والوجاهة، مقدماً في بلده يرجع الناس إلى أمره ونهيه".


وكل هذه دلائل تشير إلى مدى تغلغل المذهب الشيعي في حلب فماذا فعل نور الدين السني عندما آل إليه ملك هذه المدينة؟


لقد بداً باتخاذ خطوات سياسية واكبتها في الوقت نفسه خطوات فكرية هامة: ففي رجب من عام 543هـ 1148م أي بعد عامين تقريباً من استقراره في حلب


1- رأيناه يأمر الشيعة بترك :" حي على خير العمل " في الآذان ،


2- وينكر عليهم إنكارا شديدا، جهرهم بسب صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويحذرهم من مغبة العود إلى ما نهوا عنه، فعظم هذا الأمر على أهل التشيع، وضاقت له صدورهم، وهاجوا له وماجوا، ثم سكتوا وأحجموا بالخوف من السطوة النورية"


3- كما
أبعد نور الدين ـ عن حلب ـ بعض رؤوس الشيعة فنفاهم منها، وكان على رأس المبعدين والد المؤرخ ابن أبي طي.

4- وواكبت هذه الخطوة السياسية خطوة فكرية هامة: وهي إنشاء مدرستين سنيتين كبيرتين: إحداهما للحنفية وهي المدرسة " الحلاوية" التي أنشأها نور الدين في العام ذاته 543هـ1148م وأسند التدريس فيها إلى برهان الدين أبي الحسن على بن الحسن البلخي، حيث استدعاه نور الدين من دمشق فجاء وألقى فيها الدروس على الفقهاء، وكان هو وتلاميذه خير عون لنور الدين في تنفيذ سياسته الرامية إلى مناهضة الشيعة ونصرة السنة، فيذكر بعض المؤرخين أن البلخي جلس تحت منارة المسجد وأمر بعض الفقهاء بالصعود إليها وقت الأذان، وقال لهم : من لم يؤذن الأذان المشروع فألقوه من المنارة على رأسه، فأذنوا الأذان المشروع.

والمدرسة الثانية أنشأها نور الدين في العام التالي (544هـ =1149م) وهي المدرسة النفّرية النورية وكانت للشافعية ـ وتولى التدريس بها الإمام قطب الدين مسعود بن محمد النيسابوري ت (578هـ =1182م) أحد أساتذة نظامية نيسابور ، وكان قد حضر إلى دمشق في عام (540ه=1145م) وأقام فيها يعظ ويعلم، فأقبل عليه الناس، فاستدعاه نور الدين إلى حلب، وأسند إليه التدريس بهذه المدرسة.

ولم يكن اختيار النيسابوري لتولي الأستاذية بهذه المدرسة من قبيل المصادفة فالرجل له قدم راسخة في علم الكلام، ومعنى هذا: أن نور الدين كان يقصد من وراء هذا الاختيار إلى نفس الهدف الذي كان ينشده نظام الملك عندما قصر مدارسه على أئمة الشافعية وفقهائهم باعتبارهم الفئة التي كانت مهيأة للدفاع عن العقيدة السنية بعد أن
سلح معظمهم بدراسة عقيدة الأشعري ونذروا أنفسهم للدفاع عنها، وكان نور الدين بحاجة إلى هذا الإمام وأمثاله في بيئة حلب التي يشكل الإمامية و الإسماعيلية معظم سكانها، وكلا الفريقين كان مسلحاً بالفلسفة للدفاع عن عقيدته.



ويقوي ما ذهبنا إليه أن نور الدين الذي كان يتبع مذهب الإمام أبي حنيفة أنشأ للشافعية في حلب ثلاث مدارس هي : النفرية، والعصرونية، والشعيبية، وأسند الأولى إلى أستاذ من أساتذة النظاميات، والثانية إلى تلميذ من أنبغ من خرجت نظامية بغداد وهو شرف الدين بن أبي عصرون، في الوقت الذي لم ينشىء فيه لأهل مذهبه إلا مدرسة واحدة وهي الحلاوية السالفة الذكر.


كما يقويه أيضاً: أن نور الدين لم يسلك سبيلا مشابهاً لهذا المسلك في دمشق بعد أن استولى عليها، إذ كانت حفاوته بمدارس الحنفية أكثر، فأنشأ فيها أشهر مدارسه وهي: النورية الكبرى، كما بنى للحنفية مدرسة أخرى بجامع القلعة عرفت بالنورية الصغرى، أما الشافعية فإنه أسس لهم مدرستين أو ثلاثا على خلاف بين المؤرخين إحداها: مات قبل أن يتمها فلم تكتمل إلا في عهد المعظم عيسى الذي نقل إليها رفات والده:" العادل" ونسبها إليه، ومن ثم عرفت بالعادلية الكبرى، وثانيتها: المدرسة الصلاحية التي ذكر عز الدين بن شداد أن بانيها هو نور الدين، ولكنها نسبت إلى صلاح الدين، والثالثة: ذكرها النعيمي فقط، وهي مدرسة الكلاسة قرب الجامع الأموي وواضح من نسبة المدرستين العادلية والصلاحية إلى غير مؤسسها أنهما لم يقدر لهما أن تنالا من رعايته ما نالته منه مدرستا الحنفية بدمشق.


وسبب ذلك ـ فيما يبدو ـ أن حلب كانت في حاجة ماسة إلى جهود الشافعية المسلحين بدراسة الجدل وعلم الكلام ليواجهوا الشيعة مواجهة فكرية تشد من أزر المواجهة السياسية، لذا رأينا نور الدين يكثر من بناء مدارس الشافعية بحلب، ويستقدم لها نوعية خاصة من الأساتذة ليتولوا مهمة التدريس بها والإشراف عليها، وهذا ما لم يحفل به كثيرا في دمشق حيث النفوذ السني غالب، فصرف همته إلى العناية بفقهاء مذهبه، والاهتمام بدار الحديث الشريف التي أنشأها.


ولم تقف جهود نور الدين في حلب عند حد العناية بإنشاء المدارس للحنفية والشافعية بل إنه كان حريصاً على أن يستفيد من جهود علماء السنة على اختلاف مذاهبهم في محاربة الفكر الشيعي، والتمكين لمذهب السنة، ولعله كان يعي جيداً سلبيات المدارس النظامية عندما حصرت جهودها في إعداد طائفة واحدة من طوائف السنة لهذه الغاية، وأحاطتهم برعايتها، فأثارت بذلك الأحقاد الكامنة، وأدت إلى قيام صراع بين الشافعية وبعض فرق السنة الأخرى،
لذا وجدنا نور الدين يعنى أيضاً بعلماء المالكية والحنابلة وفقهائهم، فأوقف زاويتين بالمسجد الجامع بحلب، وخصص إحداهما لفقهاء الحنابلة والأخرى للمالكية، وبذلك نجح نور الدين في التخفيف من حدة الصراع المذهبي بين المذاهب السنية المختلفة، ومحاولة نور الدين هذه شبيهة ـ من بعض الوجوه ـ بالمحاولة التي قام بها الخليفة المستنصر العباسي عندما أسس المدرسة المستنصرية، ووقفها على فقهاء المذاهب الأربعة، ليخفف من حدة الخلاف بين المذاهب الفقيهية وخاصة الشافعية والحنابلة، هذا الخلاف الذي زادته عنفا المدارس النظامية.


5- وإلى جانب اهتمام نور الدين بإنشاء المدارس السنية فإنه اهتم كذلك بإنشاء خوانق الصوفية، وكانت ـ في ذلك العصر ـ مكاناً للعبادة والدرس الإمام الغزالي وقد استطاع أن ينقي التصوف من كثير من الشوائب، وأن يمزج بينه وبين الشريعة مزجا تاماً، وأصبح التصوف في تلك الفترة اتجاها له نفوذه وسيطرته وتقديره على المستوى الرسمي والشعبي: فكانت الصوفية محل تقدير الحكام واحترامهم، وخاصة نور الدين الذي كان يثق بهم ثقة مطلقة، ويرحب بهم في بلاطه،ويبني لهم الخوانق في أنحاء مملكته، وكان نصيب حلب من جهوده في هذا المجال ثلاث خوانق: اثنتان منها للرجال وواحدة للنساء.


6- وإلى جانب المدارس وخوانق الصوفية اهتم نور الدين بتخصيص دور لتدريس الحديث الشريف، ولعلنا لا نكون مبالغين إذا قلنا: إن الاهتمام بالحديث في هذه الفترة، وخاصة في البيئات التي يغلب عليها التشيع كان جزءا من حركة الإحياء السني، ومناهضة الفكر الشيعي، ذلك أن الشيعة لا يعترفون بصحة الحديث إلا إذا كان مروياً عن آل البيت، ويعتمد الإمامية منهم على كتب أربع خاصة بهم جمعها بعض رجالهم، وهي إلى الآن تمثل مصادر الحديث الصحيح عندهم، وكان طبيعياً أن ينتهي بهم هذا الموقف إلى الطعن في صحاح السنة.


يضاف إلى هذا أن العناية بالحديث الشريف، وتشييد معاهد دراسية خاصة به كان سمة من سمات هذه الفترة التي حكم فيها نور الدين والأيوبيون، ذلك أن الظروف التي أحاطت بالشام ومصر في تلك الفترة عكست ظلالها على مناهج الدراسة في المعاهد العلمية السنية، وكان من أثر ذلك العناية بالحديث وعلومه استجابة لظرف واقعي تمثل في احتلال الصليبيين لأجزاء واسعة من بلاد الشام من بينها القدس الشريف، فكان على هذه المعاهد أن تعبئ الناس للجهاد وتحيي فيهم روح البطولة والاستشهاد عن طريق تدريس الحديث والعناية به خاصة ما يتعلق منه بباب الجهاد في سبيل الله، لذا رأينا نور الدين يوقف زاوية بجامع حلب على دراسة الحديث، كما أوقف دارا أخرى للغرض ذاته.


هذه هي أبرز الجهود التي نهض بها نور الدين في حلب لدعم المذهب السني، بها وبالطبع لم يتقبلها الشيعة بقبول حسن، بل ظلوا ينتهزون الفرص المواتية ليعودوا بحلب مرة أخرى إلى ما كانت عليه، بيئة شيعية يمارسون فيها شعائرهم بحرية تامة.


رد الشيعة على جهود نور زنكي لاحياء الشريعة السنية
------



وكانت محاولتهم الأولى في هذا السبيل عام (552هـ =1157م) عندما مرض نور الدين بحلب حتى أرجف بموته، ووصل أخوه نصرة الدين إلى حلب ليخلفه في ولايته، فمنعه والي القلعة من الدخول إليها، فتجمع حوله أحداث الشيعة وأبدوا استعدادهم لنصرته شريطة أن يسمح لهم بالعودة إلى ممارسة شعائرهم التي أبطلها نور الدين، فوعدهم بذلك، واشتعلت نيران الفتنة بين السنة والشيعة، وقام الأخيرون بنهب بعض المراكز التعليمية السنية كالمدرسة العصرونية وغيرها من دور أهل السنة، ولما علم نور الدين بالأمر أرسل إلى قاضي المدينة أبي الفضل هبة الله بن أبي جرادة بأن يمضي إلى الجامع ويصلي بالناس، ويعاد الأذان إلى ما كان عليه، فشرع المؤذنون في الأذان السني فاجتمع تحت المنارة من عوام الشيعة خلق كثير، فخرج إليهم القاضي وحذرهم، وبين لهم أن نور الدين قد عوفي وأنه هو الذي أمر بهذا فانصرفوا وسكتت الفتنة.


وجاءت محاولتهم الثانية في شوال من عام (564هـ =1169م) عندما أحرق الإسماعيلية مسجد حلب الجامع، وكان يتخذ مكانا للدرس إلى جانب العبادة، فكان فيه الكثير من الزوايا التي وقفها نور الدين على المالكية والحنابلة وعلماء الحديث، فأعاد نور الدين بناء الجامع ووسعه، وخصص له أوقافاً كثيرة.


ولعل هذه الحركة من جانب الإسماعيلية في حلب كانت رد فعل لاستيلاء جيش نور الدين على مصر الفاطمية في ربيع الآخر من هذا العام، إذ أيقن الإسماعيلية أن نور الدين ماض في تضييق الخناق على الشيعة، وأنه عازم على استئصال هذا المذهب من مصر والشام.


كانت خطوات نور الدين الفكرية في حلب خطوات هادفة تنم عن وعي وإدراك كاملين للهدف الذي يرجى تحقيقه من وراء إنشاء هذه المؤسسات الفكرية، وظهر هذا الوعي واضحاً من جانب نور الدين عندما تحدث مجد الدين بن الداية بلسانه إلى الفقهاء في حلب قائلاً:" نحن ما أردنا ببناء المدارس إلا نشر العلم، ودحض البدع من هذه البلدة، وإظهار الدين".


كما كان نور الدين ـ رحمه الله تعالى ـ يدرك قيمة العلم سلاحاً يواجه به العدو كما يواجهه بالقوة العسكرية، ولا شك أن نور الدين في هذه النظرة كان يعيش في عصره بعقلية العصر الذي نعيشه الآن، فعندما أشار عليه بعض أصحابه بأخذ جزء من الأموال التي خصصها للإنفاق على الفقهاء والقراء والصوفية ليستعين بها في شئون الجهاد غضب وقال: " والله إني لا أرجو النصر إلا بأولئك، فإنما ترزقون وتنصرون بضعفائكم، كيف أقطع صلات قوم يقاتلون عني وأنا نائم في فراشي بسهام لا تخطيء، وأصرفها إلى من يقاتل عني إذا رآني بسهام قد تخطيء وتصيب".


لا عجب ـ إذن ـ إذا رأينا هذه الجهود الفكرية الرائدة لنور الدين في حلب تؤتي ثمارها، ويتسابق أمراء نور الدين وأعيان دولته، وخلفاؤه من بعده إلى إنشاء المؤسسات العلمية حتى غدت حلب بعد فترة يسيرة نسبياً مركزاً من مراكز الثقافة السنية بعد أن كانت وكراً من أوكار الشيعة.


وقد أحصى المؤرخ عز الدين بن شداد (ت684هـ =1285م) مدارس حلب في أيامه فوجدها أربعاً وخمسين مدرسة موزعة بين المذاهب الفقهية الأربعة منها: إحدى وعشرون للشافعية، واثنتان وعشرون للحنفية، وثلاث للمالكية والحنابلة، وثماني دور للحديث الشريف بالإضافة إلى إحدى وثلاثين خانقاه للصوفية.


وقد آتت هذه المؤسسات العلمية ثمارها المرجوة إذ انقرضت الإسماعيلية من حلب في حدود عام (600هـ =1203م) وأخفى الإمامية معتقداتهم حتى انتهى بهم الأمر إلى أن أخذوا يتنكرون، وبأفعال السنة يتظاهرون، ويذكر أحد المؤرخين المعاصرين من أبناء حلب: أن الشيعة انقرضوا من المدينة، وتلاشوا بالمرة، ولم يبق منهم غير عدة بيوت يقذفهم بعض الناس بالرفض والتشيع، مع أن ظاهرهم على كمال الاستقامة وموافقة السنة، وذلك بفضل جهود نور الدين وجهود خلفائه الذين اقتدوا به في الإكثار من المدارس السنية، وتعيين الأساتذة الأكفاء لها، والإنفاق عليها بسخاء حتى تراجع التشيع من هذه المدينة، وأصبحت السيادة فيها لمذهب أهل السنة.


المصدر: التاريخ السياسي والفكري

للمذهب السني في المشرق الإسلامي .

للدكتور: عبد المجيد بدوي.


https://islamsyria.com/site/show_ar...BqLmIPeCNAECkpW8sKE0DdQbKJ-trrh6Aohf2l9vq8Ojw
 

السلطان العادل نور الدين محمود زنكي


مدخل:
مرّت الشعوب المسلمة بسنين عجاف كثرت فيها الخلافات، وتعددت فيها الرايات، وظهر على المسلمين فيها الأعداء، وخبأ في قلوب الأكثرين الرجاء، غير أن الله سخر رجالاً "ظهروا ونبغوا في أحوال غير مساعدة وفي أجواء غير موافقة بل وفي أزمنة مظلمة حالكة، وفي بيئات قاتلة فاتكة، وفي شعب أصيب بشلل الفكر، وخواء الروح، وخمود العاطفة، وضعف الإرادة، وخور العزيمة، وسقوط الهمة، ورخاوة الجسم، ورقة العيش، وفساد الأخلاق، والإخلاد إلى الراحة، والخضوع للقوة، واليأس من الإصلاح"(1).
فعملوا على البناء في مجالات عدة: البناء للشخصية المسلمة والبناء للنظام الإداري والبناء للأمة المتوحدة، حتى استطاعوا تجديد الدين في واقع الناس، ونشر راية السنة في ربوع الأرض الإسلامية، من هؤلاء الأبطال السلطان العابد المتواضع الزاهد الشجاع المجاهد نور الدين محمود زنكي رحمه الله، الذي يجهل سيرته كثير من المسلمين.​


أصله ونسبه:​
هو الملك العادل نور الدين محمود بن عماد الدين زنكي بن آقسنقر التركماني ، كان جده آقسنقر قد وُلِّي حلب وغيرها من بلاد الشام من قبل سلطان السلاجقة ملكشاه ، ونشأ أبوه عماد الدين زنكي بالعراق، وندبه الخليفة المسترشد بالله أمير المؤمنين لولاية ديار الموصل والبلاد الشامية بعد قتل آقسنقر البرسقي وموت ابنه مسعود، فظهرت كفايته وبدت شهامته واستتب له الأمر ففتح الرها ( اورفة حاليا بتركيا ) ومعرة النعمان ( ريف ادلب بسورية ) وكفر طاب وغيرها من الحصون الشامية، واستنقذها من أيدي الكفار، وحاصر دمشق مرتين، فلم يتيسر له فتحها، فلما انقضى أجله رحمه الله قام ابنه نور الدين مقامه في الملك.​


حياته:​
أكرم الله نور الدين بكل هذا التاريخ المجيد وكل هذه السيرة العطرة ولم تتجاوز أيامه في هذه الأرض ثمانية وخمسين عاماً، فقد ولد نور الدين وقت طلوع الشمس من يوم الأحد سابع عشر شوال سنة إحدى عشرة وخمسمائة، ومات يوم الأربعاء الحادي عشر من شوال سنة تسعٍ و ستين وخمسمائة، مكث منها في الملك ثمانية وعشرين عاماً.​


نشأته:​
نشأ نور الدين في كفالة والده، و تعلم القرآن و الفروسية الرمي، و كان شهماً شجاعاً ذا همة عالية، وقصد صالح، وحرمة وافرة وديانة بينة (2).​



حبه للسنة:​
أظهر نور الدين ببلاده السنة، وأمات البدعة، ومن ذلك أمره بالتأذين بـ(حيّ على الصلاة، حيّ على الفلاح)، ولم يكن يؤذن بهما في دولة أبيه و جده، وإنما كان يؤذن بـ(حيّ على خير العمل) شعار الرافضة المبتدعة الذين كانوا كثيرين في أيامه.

كان نور الدين محباً للسنة حريصاً على اتباعها، قال عنه ابن عساكر: "ولقد حكى عنه من صحبه في حضره وسفره أنه لم يكن يسمع منه كلمة فحش في رضاه ولا في ضجره، وإن أشهى ما إليه كلمة حق يسمعها أو إرشاد إلى سنة يتبعها" (3).

حكى الشيخ أبو البركات أنه حضر مع عمه الحافظ أبي القاسم مجلس نور الدين لسماع شئ من الحديث، فمر أثناء الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج متقلداً سيفاً، فاستفاد نور الدين رحمه الله أمراً لم يكن يعرفه، وقال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتقلد السيف!!" يشير إلى التعجب من عادة الجند إذ هم على خلاف ذلك لأنهم يربطونه بأوساطهم، فلما كان من الغد مرّ وأنا تحت القلعة والناس مجتمعون ينتظرون ركوب السلطان، فوقفنا ننظر إليه، فخرج من القلعة وهو متقلد السيف و جميع عسكره كذلك، و يعلق ابن قاضي شهبة على هذه الحادثة فيقول: "رحم الله هذا الملك الذي لم يفرط في الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم بمثل هذه الحالة. بل لما بلغته رجع بنفسه ورد جنده عن عوائدهم اتباعاً لما بلغه عن نبيه صلى الله عليه سلم فما الظن بغير ذلك من السنن" (4).

وروى أبو شامة قائلاً: "وبلغني من شدة اهتمام نور الدين رحمه الله بأمر المسلمين حين نزل الفرنج على دمياط (5) أنه قرئ عليه جزء من حديث كان له به رواية، فجاء في جملة تلك الأحاديث حديث مسلسل بالتبسم فطلب منه بعض طلبة الحديث أن يبتسم لتتم السلسلة على ما عرف من عادة أهل الحديث، فغضب من ذلك وقال: إني لأستحي من الله تعالى أن يراني مبتسماً والمسلمون محاصرون بالفرنج" (6).

ومع أن نور الدين رحمه الله حنفي المذهب إلا أنه نشر مذاهب أهل السنة الأربعة، وبنى المدارس، ووقف الأوقاف، وأظهر العدل والإنصاف.
 
السلطان العادل نور الدين محمود زنكي-2


شجاعته:

يقول الإمام ابن عساكر: "بلغني أنه في الحرب رابط الجأش، ثابت القدم، شديد الانكماش، حسن الرمي بالسهام، صليب الضرب عند ضيق المقام، يقدُم أصحابه عند الكرة، ويحمي منهزمهم عند الفرة، ويتعرض بجهده للشهادة لما يرجو بها من كمال السعادة" (7).

وقال ابن الأثير: "وأما شجاعته وحسن رأيه فقد كانت النهاية إليه فيهما، فإنه كان أصبر الناس في الحرب، وأحسنهم مكيدة ورأياً، وأجودهم معرفة بأمور الأجناد وأحوالهم، وبه كان يضرب المثل في ذلك، سمعت جمعاً كثيراً من الناس لا أحصيهم يقولون: إنهم لم يروا على ظهر الفرس أحسن منه، كأنه خلق منه لا يتحرك و لا يتزلزل" (8).

وقال الحافظ ابن كثير: "وأما شجاعته فيقال: إنه لم ير على ظهر فرس أشجع ولا أثبت منه"، وقال كذلك: "وكان شجاعاً صبوراً في الحرب، يضرب المثل به في ذلك، وكان يقول: قد تعرضت للشهادة غير مرة، فلم يتفق لي ذلك، ولو كان فيّ خير ولي عند الله قيمة لرزقنيها، والأعمال بالنيات، وقال له يوماً قطب الدين النيسابوري: بالله يا مولانا السلطان لا تخاطر بنفسك؛ فإنك لو قتلت قتل جميع من معك وأخذت البلاد، وفسد المسلمون؛ فقال له: اسكت يا قطب الدين فإن قولك إساءة أدب مع الله، ومن هو محمود؟ من كان يحفظ الدين والبلاد قبلى غير الذي لا إله إلا هو؟ ومن هو محمود؟ قال فبكى من كان حاضراً رحمه الله" (9).
وكان نور الدين رحمه الله إذا حضر الحرب أخذ قوسين وجعبتين، وباشر القتال بنفسه (10).
وعند حصن الأكراد عام 558هـ هاجم الصليبيون معسكر نور الدين رحمه الله على حين غفلة وهو في قلة من أصحابه؛ فانسحب بسرعة إلى حمص وأخذ ما يحتاجه من خيام وتجهيزات عسكرية، وعاد فعسكر على بحيرة (قدس) على بعد أربعة فراسخ فحسب من مكان الهجوم، يقول ابن الأثير: "فكان الناس لا يظنون أنه يقف دون حلب، فكان رحمه الله أشجع من ذلك وأقوى عزماً"، وعلى بحيرة (قدس) اجتمع إليه كل ناجٍ من المعركة فقال له بعض أصحابه: ليس من الرأي أن تقيم هاهنا، فإن الفرنج ربما حملهم الطمع على المجيء إلينا ونحن على هذه الحال؛ فوبخه واسكته وقال: "إذا كان معي ألف فارس لا أبالي بأعدائي قلّوا أم كثروا، والله لا أستظل بجدار حتى آخذ بثأر الأسلام و ثأري"، وأرسل إلى حلب يطلب مزيداً من الأموال و العدد. وكان في نية الصليبيين الهجوم على حمص باعتبارها أقرب المواقع إليهم، فلما بلغهم مقام نور الدين رحمه الله قريباً منها قالوا: إنه لم يفعل هذا إلا وعنده من القوة ما يمنعنا (11).
وقال عنه أحد الأمراء الذين تأخروا في الاستجابة لندائه للمساعدة في فتح حارم: "إن نور الدين قد تحشف من كثرة الصوم والصلاة فهو يلقي نفسه والناس معه في المهالك" (12).
ولقد حكى عنه بعض من خدمه مدة ووازره على فعل الخير أنه سمعه يسأل الله أن يحشره من بطون السباع وحواصل الطير (13).​


فتوحاته:
بعد أن تولى نور الدين رحمه الله الملك استنقذ الرها ( اورفة جنوب تركية حاليا )من ابن جوسلين، ولما استتب له الأمر خرج غازياً في أعمال تل باشر، فافتتح حصونا كثيرة وافتتح قلعة أفامية وقلعة اعزاز وتل باشر ودلوك ومرعش وقلعة عينتاب ونهر الجوز وغير ذلك، وحصن البارة وقلعة الراوندان وقلعة تل خالد وحصن كفر لاثا وحصن بسرفوت بجبل بني عليم، وغزا حصن إنب؛ فقصده الأبرنس متملك أنطاكية وكان من أبطال العدو وشياطينهم، فرحل عنها ولقيهم دونها فكسرها وقتله وثلاثة آلاف فرنجي كانوا معه، وبقي ابنه صغيراً مع أمه بأنطاكية وتزوجت بأبرنس آخر، فخرج نور الدين رحمه الله في بعض غزواته فأسر الإبرنس الثاني، وتملك أنطاكية ابن الأبرنس الأول، وهو بيمنت، ووقع في أسره في نوبة حارم وباعه نفسه بمال عظيم أنفقه في الجهاد (14)، وحاصر دمشق مرتين فلم يتيسر له فتحها، ثم قصدها الثالثة فتم له الصلح مع ملكها معين الدين وصاهره (تزوج ابنته)، واجتمعت كلمتهما على العدو لما وازره وسلم أهلها إليه البلد؛ لغلاء الأسعار والخوف من استعلاء كلمة الكفار، فضبط أمورها، وحصن سورها، وبنى بها المدارس والمساجد، وأفاض على أهلها الفوائد، وأصلح طرقها، ووسع أسواقها، وأدر الله على رعيته ببركته أرزاقها، وبطل منها الأنزال، ورفع عن أهلها الأثقال، ومنع ما كان يؤخذ منهم من المغارم كدار بطيخ وسوق البقل وضمان النهر والكيالة وسوق الغنم وغير ذلك من المظالم، وأمر بترك ما كان يؤخذ على الخمر من المكس، ونهى عن شربه وعاقب عليه بإقامة الحد والحبس، واستنقذ من العدو خذلهم الله ثغر بانياس وغيره من المعاقل المنيعة، كالمنيطرة وغيرها بعد الأياس (15).


إنجازاته الاجتماعية والإدارية:
أما إنجازاته الاجتماعية فقد لخصها أبن عساكر في قوله: "وأدر على الضعفاء والأيتام الصدقات، وتعهد ذوي الحاجة من أولي التعفف بالصلات، حتى وقف وقوفاً على المرضى والمجانين، وأقام لهم الأطباء والمعالجين، وكذلك على جماعة العميان، ومعلمي الخط والقرآن، وعلي ساكني الحرمين ومجاوري المسجدين، وأكرم أمير المدينة الحسين، وأحسن إليه، وأجرى عليه الضيافة لما قدم عليه وجهز معه عسكراً لحفظ المدينة، وقام لهم بما يحتاجون إليه من المؤونة، وأقطع أمير مكة إقطاعاً سنياً، وأعطى كلاً منهما ما يأكله هنياً مرياً، ورفع عن الحُجّاج ما كان يؤخذ منهم من المكس، وأقطع أمراء العرب الإقطاعات لئلا يتعرضوا للحجاج بالنحس، وأمر بإكمال سور مدينة الرسول، واستخراج العين التي بأحد وكانت قد دفنتها السيول، ودعي له بالحرمين، واشتهر صيته في الخافقين، وعمر الربط والخانقاهات والبيمارستانات (16)، وبنى الجسور في الطرق والخانات، ونصب جماعة من المعلمين لتعليم يتامى المسلمين، وأجرى الأرزاق على معلميهم وعليهم وبقدر ما يكفيهم، وكذلك صنع لما ملك سنجار وحران والرها والرقة ومنبج وشيزر وحماه وحمص وبعلبك وصرخد وتدمر، فما من بلد منها إلا وله فيه حسن أثر، وما من أهلها أحد إلا نظر له أحسن نظر، وحصل الكثير من كتب العلوم ووقفها على طلابها، وأقام عليها الحفظة من نقلتها وطلابها وأربابها، وجدد كثيراً من ذي السبيل وهدى بجهده إلى سواء السبيل (17).


زهده وتواضعه:
كان السلطان نور الدين رحمه الله زاهداً متواضعاً، لا يحب علواً في الأرض ولا فساداً، تلقى يوماً من بغداد هدية تشريف عباسية، ومعها قائمة بألقابه التي كان يذكر بها على منابر بغداد ".. اللهم أصلح المولى السلطان الملك العادل العالم العامل الزاهد العابد الورع المجاهد المرابط المثاغر نور الدين و عدته، ركن الإسلام و سيفه، قسيم الدولة وعمادها، اختيار الخلافة ومعزها، رضيَّ الإمامة وأثيرها، فخر الملة ومجدها، شمس المعالي و ملكها، سيد ملوك المشرق والمغرب وسلطانها، محي العدل في العالمين، منصف المظلوم من الظالمين ناصر دولة أمير المؤمنين.."، لكن نور الدين رحمه الله أسقط جميع الألقاب وطرح دعاءً واحداً يقول: "اللهم واصلح عبدك الفقير محمود زنكي!!" (18).

وعندما التقت قواته في (حارم) بالصليبيين الذين كانوا يفوقونهم عُدة وعدداً، انفرد نور الدين رحمه الله تحت تل حارم، وسجد لربه عز وجل، ومرّغ وجهه، وتضرع وقال: "يا رب هؤلاء عبيدك وهم أولياؤك، وهؤلاء عبيدك وهم أعداؤك، فانصر أولياءك على أعدائك، أيش فضول محمود في الوسط؟"، يقول أبو شامة: "يشير نور الدين هنا إلى أنك يا رب أن نصرت المسلمين فدينك نصرت، فلا تمنعهم النصر بسبب محمود إن كان غير مستحق للنصر، و بلغني ـ يعني أبو شامة ـ أنه قال: اللهم انصر دينك ولا تنصر محموداً.. من هو محمود حتي ينصر؟" (19).

وحكى أبو شامة قائلاً: "وبلغني أن إماماً لنور الدين رأى ليلة رحيل الفرنج عن دمياط في منامه النبي صلى الله عليه وسلم وقال له: أَعْلِمْ نور الدين أن الفرنج قد رحلوا عن دمياط في هذه الليلة، فقال: يا رسول الله، ربما لا يصدقني، فأذكر لي علامة يعرفها، فقال : قل له بعلامة ما سجدت على تل حارم وقلت : يا رب انصر دينك ولا تنصر محموداً، من هو محمود الكلب حتى ينصر؟".

قال فبهت ونزلت إلى المسجد، وكان من عادة نور الدين أنه كان ينزل إليه بغلس، ولا يزال يتركع فيه حتى يصلي الصبح، قال فتعرضت له فسألني عن أمري، فأخبرته بالمنام وذكرت له العلامة، إلا أنني لم أذكر لفظة الكلب، فقال نور الدين: أذكر العلامة كلها و ألح علي في ذلك، فقلتها، فبكى ـ رحمه الله ـ وصدق الرؤيا، فأرخت تلك الليلة، فجاء الخبر برحيل الفرنج بعد ذلك في تلك الليلة" (20).

أما نفقته فقد كانت قصداً، يقول ابن كثير: "كان نور الدين عفيف البطن والفرج، مقتصداً في الإنفاق على أهله و عياله في المطعم والملبس حتى قيل: إنه كان أدنى الفقراء في زمانه أعلى نفقة منه، من غير اكتناز ولا استئثار بالدنيا" (21).​
ويحكي رضيع الخاتون زوجة نور الدين، أنها أرسلته إلي نور الدين تطلب زيادة في مخصصاتها المالية، يقول: "فلما قلت له ذلك تنكر وأحمر و جهه ثم قال: من أين أعطيها، أما يكفيها مالها؟ والله لا أخوض نار جهنم في هواها!! إن كانت تظن أن الذي بيدي من الأموال هي لي فبئس الظن!! إنما هي أموال المسلمين، ومرصدة لمصالحهم، ومعدة لفتق ـ أن كان ـ من عدو الاسلام، وأنا خازنهم عليها فلا أخونهم فيها، ثم قال: لي بمدينة حمص ثلاث دكاكين ملكاً قد وهبتها إياها فلتأخذها!! قال الرضيع: وكان يحصل منها قدر قليل، نحو عشرين ديناراً (22).
وقال ابن الأثير: "أحضر نور الدين الفقهاء، واستفتاهم في أخذ ما يحل له، فأخذ ما أفتوه بحله، ولم يتعده إلى غيره البتة، ولم يلبس قط ما حرمه الشرع من حرير أو ذهب أو فضة، وحكي لي عنه أنه حمل إليه من مصر عمامة من القصب الرفيع مذهبة فلم يحضرها عنده، فوصفت له فلم يلتفت إليها، و بينما هم معه في حديثها، إذ قد جاءه رجل صوفي فأمر له بها، فقيل له: إنها لا تصلح لهذا الرجل، ولو أعطي غيرها لكان أنفع له، فقال: أعطوها له فأني أرجو أن أعوض عنها في الآخرة، فسلمت إليه فسار بها إلى بغداد فباعها بستمائة دينار أو سبعمائة، وأنا أشك أنها كانت تساوي أكثر" (23).
ويقول سبط ابن الجوزي: "كان ـ يعني نور الدين ـ إذا أقام الولائم العظيمة لا يمد يده إليها إنما يأكل من طبق خاص فيه طعام بسيط" (24).
وكان يقترض أحياناً ليأكل يقول ابن كثير: "كان عمر الملاّء رجلاً من الصالحين الزاهدين، وكان نور الدين يستقرض منه في كل رمضان ما يفطر عليه، وكان يرسل إليه بفتيت ورقاق فيفطر عليه" (25).

صلاحه وتقواه:
كان نور الدين رحمه الله صالحاً.. صادق الرؤيا.. "رأى النبي صلى الله عليه وسلم في ليلة واحدة ثلاث مرات، وهو يقول له في كل واحدة منها: يا محمود أنقذني من هذين الشخصين، لشخصين أشقرين تجاهه، فاستحضر وزيره قبل الصبح فأخبره، فقال له: هذا أمر حدث في مدينة النبي صلى الله عليه وسلم ليس له غيرك، فتجهز ـ نور الدين ـ وخرج على عجل بمقدار ألف راحلة وما يتبعها من خيل وغير ذلك، حتى دخل المدينة على غفلة، فلما زار طلب الناس عامة للصدقة، وقال: لا يبقى بالمدينة أحد إلا جاء، فلم يبق إلا رجلان مجاوران من أهل الأندلس نازلان في الناحية التي قبلة حجرة النبي صلى الله عليه وسلم من خارج المسجد عند دار آل عمر بن الخطاب، قالا: نحن في كفاية، فجدّ في طلبهما حتى جئ بهما فلما رآهما قال للوزير هما هذان، فسألهما عن حالهما وما جاء بهما، فقالا لمجاورة النبي صلى الله عليه وسلم فكرر السؤال عليهما حتى أفضى إلى العقوبة، فأقرا أنهما من النصارى ووصلا لكي ينقلا النبي صلى الله عليه وسلم من هذه الحجرة الشريفة، ووجدهما قد حفرا نقباً تحت الأرض من تحت حائط المسجد القبلي يجعلان التراب في بئر عنهما في البيت.
فضرب أعناقهما عند الشباك الذي شرقي حجرة النبي صلى الله عليه وسلم خارج المسجد وركب متوجهاً إلى الشام راجعاً، فصاح به من كان نازلاً تحت السور واستغاثوا وطلبوا أن يبني لهم سوراً يحفظهم فأمر ببناء هذا السور الموجود اليوم" (26).
فيا من يرى علو تلك المرتبة لا تنس الدرج!
إن الناظر إلى سيرة نور الدين رحمه الله ليرى حياة حافلة بالإنجاز و العطاء، والبذل والجهاد، ويتعجب كيف استطاع أن يبلغ تلك المنزلة، ويتذكر قول ابن القيم: "فيا من يرى علو تلك المرتبة لا تنس الدرج، كم خاض بحراً ملحاً حتى وقع بالعذب! وكم تاه في مهْمهٍ قفرٍ حتى سمى بالدليل! وكم أنضَّ مراكب الجسم! وفض شهوات الحس! وواصل السرى ـ ليلاً ونهاراً ـ وأوقد نار الصبر في دياجي الهوى" (27)، فلله كم من بحر ملح خاضه نور الدين! وكم من غصص الصبر تجرع! وكم من الشهوات خالف! وكم من المباح هجر! وكم من الجهد البدني والرياضة الروحية قدم! حتى وصل إلى تلك المرتبة التي تنحسر عنها الأبصار.
وأرى أن أهم الأسباب التي أهلته لذلك الفضل و تلك المنزلة: مواظبته على العبادة وإخلاصه وتجرده.

مواظبته على العبادة:​

قال أبو شامة: سمعت ابن شداد يقول: "بلغنا بأخبار التواتر عن جماعة يعتمد علي قولهم أنه كان أكثر الليالي يصلي و يناجي ربه، مقبلاً بوجهه عليه، ويؤدي الصلوات الخمس في أوقاتها، بتمام شرائطها وأركانها وركوعها وسجودها، ... وكان كفّار القدس يقولون: إن نور الدين له مع الله سر!! فإنه ما يظفر علينا بكثرة جنده وعسكره وإنما يظفر علينا بالدعاء وصلاة الليل، والله يستجيب دعاءه ويعطيه سؤله وما يرد يده خائبة، فيظفر علينا" (28)، وقال: "كان من عادة نور الدين أنه كان ينزل إلى المسجد بغلس، ولا يزال يركع حتى يصلي الصبح" (29)، وقال ابن الأثير: "حدثني صديق لنا بدمشق كان رضيع الخاتون زوجة نور الدين فقال: كان نور الدين يصلي فيطيل الصلاة، وله أوراد في النهار، فإذا جاء الليل وصلي العشاء نام، ثم يستيقظ نصف الليل، ويقوم إلى الوضوء والصلاة والدعاء إلى بكرة، ثم يظهر للركوب ويشتغل بمهام الدولة" (30).
وقال ابن عساكر: "كان كثير المطالعة للعلوم الدينية، متبعاً للآثار النبوية، مواظباً على الصلوات في الجماعات، مراعياً لأدائها في الأوقات، مؤدياً لفروضها ومسنوناتها، معظماً لفقدها في جميع حالاتها، عاكفاً على تلاوة القرآن على الأيام،حريصاً على فعل الخير من الصدقة والصيام، كثير الدعاء والتسبيح، راغباً في صلاة التراويح، عفيف البطن والفرج، مقتصداً في الإنفاق والخرج، متحرياً في المطاعم والمشارب والملابس، متبرياً من التباهي والتماري والتنافس، عرياً عن التجبر والتكبر، بريئاً من التنجم والتطير، مع ما جمع الله له من العقل المتين، والرأي الصويب الرصين، والاقتداء بسيرة السلف الماضين، والتشبه بالعلماء والصالحين، والاقتفاء لسيرة من سلف منهم في حسن سمتهم والاتباع لهم في حفظ حالهم ووقتهم" (31).
وقال ابن قاضي شهبة: "كان نور الدين كثير الصيام، وله أوراد في الليل و النهار، وكان يقدم أشغال المسلمين عليها ثم يتم أوراده) (32).

وكان يخصص في بيته مكاناً للعبادة فقد روي أنه ألحق ببيته صُفّة يخلو فيها للعبادة، فلما ضربت الزلازل دمشق، بنى بإزاء تلك الصفة بيتاً من الأخشاب: "فهو يبيت فيه ويصبح ويخلو بعبادته ولا يبرح، ولما توفي دفن في البيت البسيط المقام من الأخشاب" (33).

 

السلطان العادل نور الدين محمود زنكي-3



بين نور الدين زنكي وصلاح الدين الايوبي:

عمل بعض المؤرخين من أصحاب الغرض ـ مثل ابن أبي طي ـ على تضخيم الخلاف الذي حدث بين نور الدين وصلاح الدين رحمهما الله وحملوا على نور الدين كثيراً، ونسبوا له ما لا يليق به، وقد أحسن الإمام أبو شامة إذ رد عليهم كلامهم، وبين سبب حملهم على نور الدين رحمه الله بقوله: "ابن أبي طيّ متهم فيما ينسبه إلى نور الدين مما لا يليق به، فإن نور الدين رحمه الله كان قد أذل الشيعة بحلب وأبطل شعارهم، وقوّى أهل السنة، وكان والد ابن أبي طيّ من رؤوس الشيعة فنفاه من حلب، فلهذا هو في الكتاب كثير الحمل على نور الدين رحمه الله فلا يقبل منه ما ينسبه إليه مما لا يليق به. والله أعلم".
كان صلاح الدين رحمه الله وأسرته محل تكريم السلطان نور الدين رحمه الله، ذلك أن أسد الدين شيركوه ـ عم صلاح الدين ـ هو الذي مهد الأمر لنور الدين ليصير حاكماً على حلب، وقد حفظ نور الدين لأسد الدين رحمهما الله هذا الجميل، وكان ما رآه نور الدين من شجاعة أسد الدين وجلده على جهاد الفرنجة، دافعاً لحفظ الجميل، فأكرمه وجعله مقدمة عسكره، وأقطعه حتى صارت له حمص والرحبة وغيرهما، ولما تعلقت همة نور الدين بدمشق أمر أسد الدين أن يرسل إلى أخيه نجم الدين أيوب ـ والد صلاح الدين ـ ليترك دمشق ويلتحق بخدمة نور الدين، ففعل، وصار أسد الدين ونجم الدين عند نور الدين في المحل الأعلى والمكان الأسمى، لا سيما نجم الدين، فإن جميع الأمراء كانوا إذ دخلوا على نور الدين لا يقعدون حتى يأمرهم نور الدين بذلك، إلا نجم الدين فإنه كان إذا دخل إليه قعد من غير أن يؤمر بذلك" (34).
ولما خاف نور الدين رحمه الله على مصر من أن يدخلها الفرنجة؛ أمر صلاح الدين أن يسير إلى عمه أسد الدين في حمص يأمره بالحضور إليه، ويحثه على الإسراع، فلما فعل وعاد مع عمه أمرهما نور الدين بالخروج في الجيش إلى مصر، يقول صلاح الدين: "قال لي نور الدين: لابد من مسيرك مع عمك، فشكوت إليه المضايقة، وقلة الدواب، وما أحتاج إليه فأعطاني ما تجهزت به، وكأنما أساق إلى الموت، وكان نور الدين مهيباً مخوفاً مع لينه ورحمته، فسرت معه، فلما استقر أمره وتوفي أعطاني الله من ملكها ما لا كنت أتوقعه" (35)، وبعد وفاة أسد الدين، خلفه صلاح الدين، "وثبت قدمه، ورسخ ملكه، وهو نائب عن الملك العادل نور الدين، والخطبة لنور الدين في البلاد كلها، ولا يتصرفون إلا عن أمره، واستمال صلاح الدين قلوب الناس، وبذل لهم الأموال مما كان أسد الدين قد جمعه" (36).
ذكر الإمام أبو شامة أن العلاقة بين نور الدين وصلاح الدين رحمهما الله توترت مرتين: الأولى عندما طلب صلاح الدين من نور الدين أن يرسل إليه إخوته فرفض نور الدين، وقد أوّل المغرضون هذا الرفض بأنه خوف من نور الدين على القوة المتنامية لصلاح الدين، وخشيته أن يسهم وجود إخوته معه في زيادة هذه القوة، أما المنصفون من المؤرخين فقد بينوا عكس ذلك ونقلوا عن نور الدين أنه قال مبيناً سبب رفضه: "أخاف أن يخالف أحد منهم عليك فتفسد البلاد"، وعضددوا قولهم بأن نور الدين أرسل أخوة صلاح الدين في جيش الإمداد الذي وجهه إلى مصر عندما زحف الفرنجة إليها، ونصح شمس الدولة تورانشاه بن أيوب الأخ الأكبر لصلاح الدين نصيحة غالية تبين مدى حرصه على استتباب الأمر لصلاح الدين، إذ قال له: "إن كنت تسير إلى مصر وتنظر إلى أخيك أنه يوسف الذي كان يقوم في خدمتك وأنت قاعد، فلا تسر فإنك تفسد البلاد، وأحضرك حينئذ وأعاقبك بما تستحقه، وإن كنت تنظر إليه أنه صاحب مصر وقائم فيها مقامي وتخدمه بنفسك كما تخدمني فسر إليه، واشدد أزره وساعده على ما هو بصدده، فقال تورانشاه : أفعل معه من الخدمة والطاعة ما يصل إليك ـ إن شاء الله تعالى ـ فكان كما قال.
أما الثانية: فقد أوردها الإمام أبو شامة نقلاً عن ابن الأثير إذ قال: "وفي سنة سبع وستين أيضاً جرى ما أوجب نفرة نور الدين من صلاح الدين، وكان الحادث أن نور الدين أرسل إلى صلاح الدين، يأمره بجمع العساكر المصرية والمسير بها إلى بلاد الفرنج والنزول على الكرك ومحاصرته، ليجمع هو أيضاً عساكره ويسير إليه ويجتمعا هناك على حرب الفرنج والاستيلاء على بلادهم، فبرز صلاح الدين من القاهرة في العشرين من المحرّم وكتب إلى نور الدين يعرّفه أن رحيله لا يتأخر.
وكان نور الدين قد جمع عساكره وتجهز، وأقام ينتظر ورود الخبر من صلاح الدين برحيله ليرحل هو، فلما أتاه الخبر بذلك رحل من دمشق عازماً على قصد الكرك فوصل إليه، وأقام ينتظر وصول صلاح الدين إليه، فأتاه كتابه يعتذر فيه عن الوصول باختلال البلاد، وأنه يخاف عليها مع البعد عنها فعاد إليها، فلم يقبل نور الدين عذره، وكان سبب تقاعده أن أصحابه وخواصه خوفوه من الاجتماع بنور الدين، فحيث لم يمتثل أمر نور الدين شق ذلك عليه وعظم عنده، وعزم على الدخول إلى مصر وإخراج صلاح الدين عنها.
فبلغ الخبر إلى صلاح الدين فجمع أهله وفيهم والده نجم الدين وخاله شهاب الدين الحارمي، ومعهم سائر الأمراء وأعلمهم ما بلغه من عزم نور الدين على قصده وأخذ مصر منه، واستشارهم فلم يجبه أحد منهم بشيء، فقام ابن أخيه تقي الدين عمر وقال: إذا جاءنا قاتلناه وصددناه عن البلاد، ووافقه غيره من أهله فشتمهم نجم الدين أيوب وأنكر ذلك واستعظمه، وكان ذا رأي ومكر وكيد وعقل، وقال لتقي الدين: اقعد، وسبّه، وقال لصلاح الدين: أنا أبوك وهذا شهاب الدين خالك أتظن في هؤلاء كلهم من يحبك ويريد لك الخير مثلنا؟ فقال: لا، فقال نجم الدين: والله لو رأيت أنا ـ وهذا خالك ـ نور الدين لا يمكننا إلا أن نترجل إليه، ونقبل الأرض بين يديه، ولو أمرنا بضرب عنقك بالسيف لفعلنا، فإذا كنا نحن هكذا كيف يكون غيرنا؟ وكل من تراه من الأمراء والعساكر لو رأى نور الدين وحده لم يتجاسر على الثبات على سرجه، ولا وسعه إلا النزول وتقبيل الأرض بين يديه، وهذه البلاد له وقد أقامك فيها، فان أراد عزلك فأي حاجة به إلى المجيء، يأمرك بكتاب حتى تقصد خدمته، ويولي بلاده من يريد، وقال للجماعة كلهم: قوموا عنا، فنحن مماليك نور الدين وعبيده، ويفعل بنا ما يريده، فتفرقوا على هذا، وكتب أكثرهم إلى نور الدين بالخبر.
ولما خلا نجم الدين أيوب بابنه صلاح الدين قال له: أنت جاهل قليل المعرفة، تجمع هذا الجمع العظيم وتطلعهم على ما نفسك فإذا سمع نور الدين أنك عازم على منعه من البلاد جعلك أهم الأمور إليه وأولاها بالقصد، ولو قصدك لم تر معك من هذا العسكر أحداً، وكانوا أسلموك إليه، وأما الآن بعد هذا المجلس فسيكتبون إليه ويعرفونه قولي، وتكتب أنت إليه وترسل في هذا المعنى وتقول: أي حاجة إلى قصدي؟ يجيء نجّاب يأخذني بحبل يضعه في عنقي، فهو إذا سمع هذا عدل عن قصدك واشتغل بما هو أهم عنده، والأيام تندرج، والله كل وقت في شأن، ففعل صلاح الدين ما أشار به والده، فلما رأى نور الدين رحمه الله الأمر هكذا عدل عن قصده، وكان الأمر كما قال نجم الدين: توفى نور الدين ولم يقصده ولا أزاله، وكان هذا من أحسن الآراء وأجودها. وأقول: أنى له أن يعرف بما قاله نجم الدين لصلاح الدين مختلياً به، والصواب أن نأخذ بظاهر الأمر وهو أن نجم الدين يرى حقيقة ـ لا سياسة ـ أنه وصلاح الدين تحت قيادة نور الدين.
وقد أكد ابن الأثير في أكثر من موضع أن السبب في غضب نور الدين من صلاح الدين هو أنه رأى منه ـ أي من صلاح الدين ـ فتوراً من غزو الفرنج من ناحيته، "وكان نور الدين لا يرى إلا الجد في غزوهم بجهده وطاقته". وقال أبو شامة: "ولو علم نور الدين ماذا ادخر الله ـ تعالى ـ للاسلام من الفتوح الجليلة على يد صلاح الدين من بعده لقرت عينه، فإنه بنى على ما أسسه نور الدين رحمه الله من جهاد المشركين، وقام بذلك على أكمل الوجوه وأتمها ـ رحمهما الله تعالى ـ.

بعد وفاة نور الدين ظل صلاح الدين على وفائه لنور الدين، وظهر ذلك في مواقف عده منها:
ـ سعى صلاح الدين رحمه الله إلى ولاية ولد نور الدين ـ الملك الصالح ـ لصغر سنه، وفاء لنور الدين رحمه الله وحفظاً لوحدة الأمة، ورد على من عاتبه على ذلك ظناً منه أن صلاح الدين طمع في ملك نور الدين بقوله: "إنا لا نؤثر للإسلام وأهله إلا ما جمع شملهم، وألف كلمتهم، وللبيت الأتابكي ـ بيت نور الدين ـ أعلاه الله إلا ما حفظ أصله وفرعه، ودفع ضره وجلب نفعه، فالوفاء إنما يكون بعد الوفاة، والمحبة إنما تظهر آثارها عند تكاثر أطماع العداة، وبالجملة إنا في واد، والظانون بنا ظن السوء في واد ولنا من الصلاح مراد، ولا يقال لمن طلب الصلاح إنك قادح، ولا لمن ألقي السلاح أنك جارح" (37)، ولما تجمع الروافض حول ابن نور الدين ـ صغير السن (38) ـ عرضوا عليه نصرته على أن يأذن لهم بأن "يجهروا بـ(حي على خير العمل) في الأذان، وقدّام الجنائز بأسماء الأئمة الاثني عشر، وأن يصلوا على أمواتهم خمس تكبيرات، وأشياء كثيرة اقترحوها مما كان قد أبطله نور الدين ـ رحمة الله ـ فأجيبوا إلى ذلك" (39)،لم يكن أمام صلاح الدين رحمه الله إلا أن يعمل على أخذ البلاد منهم، فقاومهم حتى طلبوا الصلح فأجابهم وعفا وعف، وكفى وكف، وأبقى للملك الصالح ـ ابن نور الدين ـ حلباً وأعمالها وأراد له الإعزاز فرد له عزار"، ولرد عزار قصة تبين حب صلاح الدين لنور الدين إذ بعث الملك الصالح أخته بنت نور الدين إلى صلاح الدين في الليل، فدخلت عليه فقام قائماً، وقبل الأرض وبكى على نور الدين، فسألت أن يرد عليهم عزار، فقال سمعاً وطاعة، فأعطاها، وقدم لها من الجواهر والتحف والمال شيئاً كثيرا" (40)، ولم يدخل صلاح الدين حلب إلا بعد وفاة ابن نور الدين.
ـ عندما فتح صلاح الدين بيت المقدس، "أمر بالوفاء بالنذر النوري ـ أي نذر نور الدين ـ ونقل المنبر ـ الذي بناه نور الدين ليضعه في المسجد الأقصى ـ إلى موضعه القدسي، فعُرفت بذلك كرامات نور الدين التي أشرق نورها بعده بسنين" (41).

ـ لم يذكر نور الدين أمام صلاح الدين إلا وترحم عليه وذكره بالخير، حتى إنه قال إن كل عدل فيه أنما تعلمه من نور الدين.
فضل نور الدين:

تعد فترة ولاية نور الدين من أخصب الفترات التي مرت بالمسلمين بعد الخلفاء الراشدين؛ إذ شهدت نمواً كبيراً وطفرة حقيقية في المجالات كافة: السياسية والاقتصادية والعلمية والجهادية، وقد صرح بفضل نور الدين عدد كبير من العلماء والمؤرخين، نقتطف من أقوالهم ما يلي:
ـ قال الأمام أبو شامة: "ملك نور الدين دمشق سنة تسع وأربعين، وملكها صلاح الدين سنة سبعين، فبقيت دمشق في المملكة النورية عشرين سنة، وفي المملكة الصلاحية تسع عشرة سنة تمحى فيها السيئة وتكتب الحسنة، وهذا من عجيب ما اتفق في العمر ومدة الولاية ببلدة معينة لملكين متعاقبين مع قرب الشبه بينهما في سيرتهما، والفضل للمتقدم فكانت زيادة مدة نور الدين كالتنبيه على زيادة فضله، والإرشاد إلى عظم محله، فإنه أصل ذلك الخير كله، مهد الأمور بعدله وجهاده، وهيبته في جميع بلاده، مع شدة الفتق، واتساع الخرق، وفتح من البلاد، ما استعين به على مداومة الجهاد، فهان على من بعده على الحقيقة سلوك تلك الطريقة لكن صلاح الدين أكثر جهاداً وأعمّ بلاداً، صبر وصابر، ورابط وثابر، وذخر الله له من الفتوح أنفسه، وهو الذي فتح الأرض المقدسة؛ فرضي الله عنهما".
ـ وقال أبو الحسن بن الأثير في بيان فضل نور الدين على سائر الملوك: "قد طالعت تواريخ الملوك المتقدمين قبل الإسلام وفيه إلى يومنا هذا، فلم أر بعد الخلفاء الراشدين وعمر بن عبد العزيز أحسن سيرة من الملك العادل نور الدين، ولا أكثر تحرياً للعدل والإنصاف منه، قد قصر ليله ونهاره على عدل ينشره، وجهاد يتجهز له، ومظلمة يزيلها، وعبادة يقوم بها، وإحسان يوليه، وإنعام يسديه".
ـ كما روى ابن الأثير عن عدل نور الدين بعد موته ـ وهو من أعجب ما يحكى ـ أن إنساناً كان بدمشق غريباً استوطنها وأقام بها لما رأى من عدل نور الدين ـ رحمه الله ـ فلما توفى تعدى بعض الأجناد على هذا الرجل فشكاه فلم ينصف، فنزل من القلعة وهو يستغيث ويبكي، وقد شق ثوبه وهو يقول: "يا نور الدين لو رأيتنا وما نحن فيه من الظلم لرحمتنا، أين عدلك؟ وقصد تربة نور الدين ومعه من الخلق ما لا يحصى وكلهم يبكي ويصيح فوصل الخبر إلى صلاح الدين فقيل له: احفظ البلد والرعية وإلا خرج عن يدك، فأرسل إلى ذلك الرجل وهو عند تربة نور الدين يبكي والناس معه وطيب قلبه ووهبه شيئاً وأنصفه، فبكى أشدّ من الأول، فقال له صلاح الدين: لم تبكي؟ قال: أبكي على سلطان عَدَل فينا بعد موته فقال صلاح الدين: هذا هو الحق، وكل ما ترى فينا من عدل فمنه تعلمناه.
ـ كذلك ذكر أبو شامة واصفاً هيبة مجلس نور الدين القصة التالية: "بلغني أن الحافظ ابن عساكر الدمشقيّ ـ رضي الله عنه ـ حضر مجلس صلاح الدين يوسف لما ملك دمشق فرأى فيه من اللغط وسوء الأدب من الجلوس فيه ما لا حدّ عليه فشرع يحدّث صلاح الدين كما كان يحدّث نور الدين فلم يتمكن من القول لكثرة الاختلاف من المتحدثين وقلة استماعهم فقام، وبقي مدة لا يحضر المجلس الصلاحي، وتكرر من صلاح الدين الطلب له فحضر فعاتبه صلاح الدين يوسف على انقطاعه فقال: نزهت نفسي عن مجلسك فإنني رأيته كبعض مجالس السوقة لا يستمع فيه إلى قائل ولا يرد جواب متكلم، وقد كنا بالأمس نحضر مجلس نور الدين فكنا كما قيل: كأنما على رؤوسنا الطير تعلونا الهيبة والوقار فإذا تكلّم أنصتنا وإذا تكلمنا استمع لنا، فتقدم صلاح الدين إلى أصحابه أنه لا يكون منهم ما جرت به عادتهم إذا حضر الحافظ.
ألا رحم الله الإمام العادل نور الدين، ومنَّ على المسلمين بقادة من أمثاله.. آمين.




 


الحواشي:


(1) مقدمة مذكرات الدعوة والداعية، الشيخ أبو الحسن الندوي: 4.
(2) البداية والنهاية:12/297.
(3) تأريخ دمشق لابن عساكر.
(4) نور الدين محمود لـ د. عماد الدين خليل: 89، والكواكب الدرية: 40-41.
(5) وكان فيها جيش نور الدين بقيادة صلاح الدين الأيوبي.
(6) مختصر كتاب الروضتين في أخبار الدولتين لأبي شامة، اختصار د. محمد بن حسن بن عقيل: 140.
(7) تاريخ دمشق لابن عساكر.
(8) التاريخ الباهر في الدولة الأتابكية: 168.
(9) البداية والنهاية لابن كثير: 300.
(10) نور الدين محمود وتجربته الإسلامية د. عماد الدين خليل: 31.
(11) نور الدين محمود و تجربته الإسلامية د. عماد الدين خليل:30.
(12) التاريخ الباهر في الدولة الأتابكية لابن الأثير: 117-118.
(13) تأريخ دمشق لابن عساكر.
(14) تأريخ دمشق لابن عساكر.
(15) المصدر السابق.
(16) المستشفيات.
(17) تأريخ دمشق لابن عساكر.
(18) الكواكب الدرية لابن قاضي شهبة: 68-69، ونور الدين محمود لـ د. عماد الدين خليل: 42.
(19) نور الدين محمود لـ د. عماد الدين خليل: 43، عن الروضتين: 1/ 342-343.
(20) مختصر كتاب الروضتين في أخبار الدولتين لأبي شامة، اختصار د. محمد بن حسن بن عقيل: 140.
(21) البداية و النهاية لابن كثير: 12/ 278.
(22) التاريخ الباهر في الدولة الأتابكية لابن الأثير: 165.
(23) التاريخ الباهر في الدولة الأتابكية لابن الأثير: 164.
(24) مرآة الزمان في تأريخ الأعيان الزمان لسبط ابن الجوزي: 8/315.
(25) البداية و النهاية لابن كثير:12/282.
(26) نورالدين محمود زنكي.. القائد المجاهد، د. أنس أحمد كرزون: 40، نقلاً عن شذرات الذهب: 4/230-231، والكواكب الدرية: 72-73.
(27) بدائع الفوائد:3/747.
(28) الروضتين لأبي شامة:1/34.
(29) المرجع السابق:1/ 459.
(30) التاريخ الباهر في الدولة الأتابكية لابن الأثير: 164.
(31) تاريخ دمشق.
(32) الكواكب الدرية لابن قاضي شهبة: 54.
(33) نور الدين محمود لـ د. عماد الدين خليل: 41.
(34) كتاب الروضتين في أخبار الدولتين: 110.
(35) المرجع السابق: 134.
(36) المرجع السابق: 137.
(37) مختصر كتاب الروضتين في أخبار الدولتين: 183.
(38) مات مسموماً ولم يبلغ العشرين من عمره، وعد بعض المؤرخين هذه من كرامات نور الدين إذ أنه سأل الله أن لا يعذب شيئاً من أجزائه بالنار، فمات قبل أن يطول عمره على أحسن سيرة كما قال أبو شامة، وفي مرض موته أجاز له أحد الفقهاء أن يتداوى بالخمر فسأله: إن كان الله قد قرب أجلي أيؤخره شرب الخمر؟ قال: لا، قال: والله لا لقيت الله تعالى وقد استعملت ما حرّمه عليّ.
(39) مختصر كتاب الروضتين في أخبار الدولتين: 187.
(40) مختصر كتاب الروضتين في أخبار الدولتين: 194.
(41) مختصر كتاب الروضتين في أخبار الدولتين: 265


:www.saaid.net/Doat/nizar/3.htm+&cd=16&hl=ar&ct=clnk
 
بسم الله ما شاء الله الاخ لادئاني موسوعة
 

ثناء شيخ الإسلام ابن تيمية على الدولتين النورية الزنكية والصلاحية الأيوبية :
====================


1- ثناؤه عليهما بسبب جهادهما للرافضة والنصارى :


قال : " وكذلك السلطان نور الدين محمود الذي كان بالشام ؛ عز أهل الإسلام والسنة في زمنه وذل الكفار وأهل البدع ممن كان بالشام ومصر وغيرهما من الرافضة والجهمية ونحوهم " .
مجموع الفتاوى (4/ 22) .


وقال : " فلما ظهر النفاق والبدع والفجور المخالف لدين الرسول سلطت عليهم الأعداء فخرجت الروم النصارى إلى الشام والجزيرة مرة بعد مرة وأخذوا الثغور الشامية شيئا بعد شيء إلى أن أخذوا بيت المقدس في أواخر المائة الرابعة وبعد هذا بمدة حاصروا دمشق وكان أهل الشام بأسوأ حال بين الكفار النصارى والمنافقين الملاحدة؛ إلى أن تولى نور الدين الشهيد وقام بما قام به من أمر الإسلام وإظهاره والجهاد لأعدائه ثم استنجد به ملوك مصر بنو عبيد على النصارى فأنجدهم وجرت فصول كثيرة إلى أن أخذت مصر من بني عبيد أخذها صلاح الدين يوسف بن سادي وخطب بها لبني العباس؛ فمن حينئذ ظهر الإسلام بمصر بعد أن مكثت بأيدي المنافقين المرتدين عن دين الإسلام مائة سنة .
مجموع الفتاوى (13/ 187) .


وقال : " وكان في الدولة العبيدية من الجهل والضلال ومعاضدة الملاحدة وأهل البدع من المعتزلة والرافضة أمور كثيرة ولهذا كان في زمنهم قد تضعضع الإسلام تضعضعا كثيرا ودخلت النصارى إلى الشام فإن بني عبيد ملاحدة منافقون ليس لهم غرض في الإيمان بالله ورسوله ولا في الجهاد في سبيل الله بل في الكفر والشرك ومعاداة الإسلام بحسب الإمكان وأتباعهم كلهم أهل بدع وضلال فاستولت النصارى في دولتهم على أكثر الشام ثم قيض الله من ملوك السنة مثل: نور الدين وصلاح الدين وإخوته وأتباعهم ففتحوا بلاد الإسلام وجاهدوا الكفار والمنافقين " .
مجموع الفتاوى (17/ 501) .


وقال : " هذه السواحل الشامية كانت ثغورًا للإسلام إلى أثناء المائة الرابعة وكان المسلمون قد فتحوا " قبرص " في خلافة عثمان رضي الله عنه فتحها معاوية .
فلما كان في أثناء المائة الرابعة اضطرب أمر الخلافة وصار للرافضة والمنافقين وغيرهم دولة وملك بالبلاد المصرية والمغرب وبالبلاد الشرقية وبأرض الشام وغلب هؤلاء على ما غلبوا عليه من الشام: سواحله وغير سواحله وهم أمة مخذولة ليس لهم عقل ولا نقل ولا دين صحيح ولا دنيا منصورة. فغلبت النصارى على عامة سواحل الشام؛ بل وأكثر بلاد الشام وقهروا الروافض والمنافقين وغيرهم وأخذوا منهم ما أخذوا إلى أن يسر الله تعالى بولاية ملوك السنة مثل " نور الدين " " وصلاح الدين " وغيرهما: فاستنقذوا عامة الشام من النصارى. وبقيت بقايا الروافض والمنافقين في جبل لبنان وغيره وربما غلبهم النصارى عليه حتى يصير هؤلاء الرافضة والمنافقون فلاحين للنصارى " .
مجموع الفتاوى ( 27 / 54 -55) .


وقال : " فهؤلاء المحادون لله ورسوله - النصيرية - كثروا حينئذ بالسواحل وغيرها فاستولى النصارى على الساحل؛ ثم بسببهم استولوا على القدس الشريف وغيره؛ فإن أحوالهم كانت من أعظم الأسباب في ذلك؛ ثم لما أقام الله ملوك المسلمين المجاهدين في سبيل الله تعالى " كنور الدين الشهيد وصلاح الدين " وأتباعهما وفتحوا السواحل من النصارى وممن كان بها منهم وفتحوا أيضا أرض مصر؛ فإنهم كانوا مستولين عليها نحو مائتي سنة واتفقوا هم والنصارى فجاهدهم المسلمون حتى فتحوا البلاد ومن ذلك التاريخ انتشرت دعوة الإسلام بالديار المصرية والشامية " .
مجموع الفتاوى (35 / 151) .

2 - ثناؤه عليهما لقيامهما بالشريعة وإسقاطهما الضرائب والمكوس :


قال : "وكانت سيرة الملوك تختلف، فمنهم العدل المتبع للشريعة ذو القوة والأمانة، المقيم للجهاد وللعدل، كنور الدين محمود بن زنكي بالشام والجزيرة ومصر؛ ومنهم الملك المسلم المعظِّم لأمرِ الله ورسوله، كصلاح الدين؛ ومنهم غير ذلك أقسام يطول شرحُها.

وهكذا هم في وضع الوظائف، فمن الملوك والوزراء من يُسرِف فيها وضعًا وجبايةً؛ ومنهم من يَستَنُّ بما فُعِل قبله، ويجري على العادة، فيجري هو والذي قبلَه على القسم الرابع؛ ومنهم من يجتهد في ذلك اجتهادًا ملكيًّا يُشبه القسم الثالث؛ ومنهم من يقصد اتباعَ الشريعة وإسقاطَ ما يخالفُهَا، كما فعلَ نور الدين لما أسقطَ الكُلَفَ السلطانية المخالفة للشريعة التي كانت توجد بالشام ومصر والجزيرة، وكانت أموالاً عظيمةً جدًّا، وزاد الله البركات، وفَتحَ البلادَ وقَمعَ العدوَّ بسبب عدلِه وإحسانِه " .
جامع الرسائل (5 / 394) .


وقال : " ولا يشير على ولي المسلمين بما فيه إظهار شعائرهم - يعني أهل الذمة - في بلاد الإسلام، أو تقوية أمرهم بوجه من الوجوه، إلا رجل منافقٌ، يظهر الإسلام ، وهو منهم في الباطن، أو رجلٌ له غرضٌ فاسدٌ، مثل أن يكونوا برطلوه ، ودخلوا عليه برغبةٍ، أو رهبةٍ، أو رجلٌ جاهلٌ في غاية الجهل، لا يعرف السياسة الشرعية الإلهية التي تنصر سلطان المسلمين على أعدائه، وأعداء الدين. وإلا فمن كان عارفاً ناصحاً له أشار عليه بما يوجب نصره، وثباته، وتأييده، واجتماع قلوب المسلمين عليه، وفتحهم له، ودعاء الناس له في مشارق الأرض ومغاربها. وهذا كله إنما يكون بإعزاز دين الله، وإظهار كلمة الله، وإذلال أعداء الله تعالى.


وليعتبر المعتبر بسيرة نور الدين، وصلاح الدين، ثم العادل، كيف مكنهم الله، وأيدهم، وفتح لهم البلاد، وأذل لهم الأعداء، لما قاموا من ذلك بما قاموا به؟!
وليعتبر بسيرة من والى النصارى؛ كيف أذله الله، وكبته؟! " .

مسألة في الكنائس (ص127) .
__________________

https://www.ahlalhdeeth.com/vb/showthread.php?t=319693
 


وليعتبر المعتبر بسيرة نور الدين، وصلاح الدين، ثم العادل، كيف مكنهم الله، وأيدهم، وفتح لهم البلاد، وأذل لهم الأعداء، لما قاموا من ذلك بما قاموا به؟!

وليعتبر بسيرة من والى النصارى؛ كيف أذله الله، وكبته؟! " .


مجموع الفتاوى ج28 -ص 643:



 
عودة
أعلى